تمهيد

لقد بدأ تعاوني مع صحيفة لوموند ديبلوماتيك في شهر مايو 1994.ثم التقيت في وقت لاحق بالسيد إغناسيو رامونيت، رئيس التحرير، في جامعة برينستون بمناسبة المؤتمر الافتتاحي لمعهد الدراسة العابرة للحدود لمنطقة الشرق الأوسط المعاصر وشمال أفريقيا وآسيا الوسطى، الذي كان يناقش نظرية صموئيل هنتنغتون حول صراع الحضارات. وقد ألهمت محادثاتنا على هامش هذه المناقشات الفكرية مقالا حول موضوع المواطنة في العالم العربي الذي قدمته في العام التالي، والبقية أصبحت من التاريخ.

 إن الأفكار التي طرحت في مختلف المقالات التي تمكنت من كتابتها منذ ذلك الحين، والتي يتضمنها هذا الكتاب، تغطي مواضيع متنوعة للغاية وبعضها مرتبط ارتباطا وثيقا بالأحداث الحالية. إن المادة المتعلقة بالمغرب في سبتمبر 1996 تتعلق بلحظة محددة من التاريخ السياسي المغربي. نشر مقال أكتوبر2001 حول الدين والمواطنة في الشرق الأوسط بعد أحداث 11 سبتمبر. وحلل العوامل الثقافية والتاريخية والسياسية الكامنة وراء الهجمات الإرهابية، من أجل تجاوز الطابع الأساسي على ما يسمى بالمواجهة الحضارية بين المسلمين والعالم الغربي، وكتب المقال عن الثورة التونسية في شهر فبراير 2011 عند بدايات الربيع العربي وهو يتناول أول اختراق ديمقراطي لهذه الموجة الثورية التاريخية.

 أما المقالات الأخرى فتطرقت إلى أفكار أوسع نطاقا. وهي تبدأ في التأمل حول التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والجيوستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط وتقارن بين عدة بلدان، من وجهة نظر من يمارس السياسة وهو في نفس الوقت باحث مستقل يراقب عن كثب هذه التغيرات منذ عقود.

 كان الموضوع الأول في هذه السلسلة من المقالات هو تفكيك النظرة الاستشراقية التي تزعم أن الشرق الأوسط هو فضاء الاستبداد الدائم. وفي حين أن الأنظمة الاستبدادية كثيرة في المنطقة، فإن طبيعة سلطويتها ليست فريدة من نوعها بالنسبة لهذه المجتمعات. فالقمع والنخب الفاسدة ومحاولة اكتساب الشرعية المزيفة وغيرها من أدوات الحكم والتحكم لا تنبع من أي جوهر غامض ولا ترتبط ارتباطا وثيقا بالبنيات السياسية، ويمكن تفسير أصل الدول الاستبدادية وتكوينها ومتانتها من خلال التحليل العلمي الموضوعي. على سبيل المثال، وكما كتبت في شهر أبريل 2008، حسّنت العديد من الأنظمة العربية في ذلك الوقت نموذجها الاستبدادي، مما سمح بوجود أنماط منافسة تخضع لرقابة شديدة. وقد شرحت هذه الخيارات على أنها استراتيجيات للبقاء على قيد الحياة في مواجهة الإحباط الشعبي العام.

 أما الموضوع الثاني فيتعلق بالديناميات القائمة بين الإسلام والديمقراطية حيث افترض أن الإسلام والديمقراطية لا يتعارضان. وهذا لا يعني أن الديمقراطية حتمية في الشرق الأوسط، لأن انهيار الاستبداد ليس بالضرورة مرادفا للديمقراطية. ومع ذلك، من المهم أن نتذكر أنه لا يوجد تعارض جوهري بين الحريات السياسية من ناحية، والثقافة الإسلامية والعقيدة من ناحية أخرى. بالإضافة إلى ذلك، فإن أي تقدم ديمقراطي في المنطقة سيتطلب من الجهات الإسلامية الفاعلة التعبير عن نفسها من خلال السياسة الحزبية والتعبئة الاجتماعية.

 ولا يزال التغلب على انعدام الثقة الذي غالبا ما يحجب العلاقات بين الإسلاميين والعلمانيين يشكل تحديا حاسما. ويمكن مقارنته بالانقسام الإيديولوجي في أميركا اللاتينية بين اليسار واليمين على الرغم من أنه أكثر حساسية، لأن الانقسام بين الإسلام والعلمانية لا يتعلق فقط بالمبادئ الفلسفية ولكن أيضا بالمفاهيم العليا للألوهية والإيمان وقد ألهمت التأملات العميقة في هذا اللغز الفكري أطروحتي لنيل شهادة الدكتوراه في جامعة أكسفورد، والتي قدمتها وناقشتها في شهر يناير 2020 بعنوان: “التوفيق بين الديمقراطية والعلمنة في الشرق الأوسط: تونس ومصر من منظور مقارن".

إن الدولة طرف هام في ديناميات الدين والسياسة. غالبا ما تميل التحليلات إلى محو دور الدولة من المعادلة عند دراسة التفاعلات بين الأطراف الفاعلة في المجال الديني والنظم السياسية. وحتى في البلدان التي يكون فيها الاحتجاج مصبوغا باللون الإسلامي بقوة، فإن الفاعل الديني الرئيسي هو الدولة نفسها كمنتج للمعايير السلفية والمثل المحافظة. والنتيجة هي لعبة سياسية معقدة. من خلال المشاركة في الخطاب الديني، ينبه الحكام الاستبداديون عندما يخاطبون الإسلاميين بأنهم يستطيعون أفضل منهم تجسيد الأخلاق والمثل الإسلامية العليا. وفي الوقت نفسه، يحذرون العلمانيين والتقدميين من أن مؤسسات الدولة الاستبدادية هي وحدها التي يمكنها حمايتهم من هجوم تيار الإسلام السياسي. وأخيرا، فإن هؤلاء الحكام يحرصون على إقناع الغرب المتوتر والمتوجس أن هذه الدول السلطوية وحدها تستطيع السيطرة على الدين واحتواء موجات المد من طرف التيار الإسلامي المتطرف.

  أما الموضوع الثالث فيتعلق بالمصالح الجيوستراتيجية والساحة الدولية، ويسعى إلى إظهار كيفية مراعاة هذه المصالح في المعادلة الإقليمية. تسلط المقالات الضوء على عدم وضوح الحدود بين السياسة الوطنية والشؤون الخارجية في الشرق الأوسط في كثير من الأحيان، وغالبا ما يكون ذلك نتيجة للصدمات والتدخلات الخارجية. تحتل حرب العراق عام 2003 مكانا مركزيا هنا. فقد أعادت تشكيل الخريطة الجيوسياسية الإقليمية وحولت ميزان المصالح بين الدول العربية وإيران، فضلا عن دور الطائفية والحركات الشعبية.

وفي المقابل، أصبح تراجع الحضور الأميركي موضوعا مهيمنا على مدى العقد الماضي، وهي الفترة التي شهدت إعادة ترسيخ الأطراف الفاعلة والدول الإقليمية لدورها فإن سوء الفهم هذا يجعل من الصعب مناقشة الشؤون السياسية الداخلية للعديد من البلدان دون النظر إلى المستوى الإقليمي والدولي. وما يحدث في سياق ما يؤثر بقوة على السياق الآخر.

 أما الموضوع المشترك الرابع فهو قضية فلسطين التي تعرف نضالا كان له دائما دور رئيسي في الخطاب السياسي العربي. إن العديد من هذه المقالات تعبر عن شكوك حقيقية حول حسن نية الحكومة الإسرائيلية في الشروع في حل الدولتين القابل للتطبيق بعد اتفاقات أوسلو، وحول قدرة الولايات المتحدة على أن تكون راعية حقيقية لعملية السلام هذه بحياد وموضوعية.

 وتؤكد هذه التحليلات أيضا أن القيادة الفلسطينية تتحمل بعض المسؤولية عن الحالة الراهنة. إن النزعة الفئوية والبحث عن الريع أمران شائعان في الحكومة الفلسطينية، وهي نتيجة تاريخية لكيفية بروز الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها وتجنّدها. ويلازم الكفاح من أجل إنشاء الدولة ذلك الصراع الطبيعي من أجل تقرير المصير الوطني. وبغض النظر عن نوايا إسرائيل فيما يتعلق بعملية أوسلو، فإن هذا الكفاح الفلسطيني لإنشاء مؤسسات جديدة من شأنها أن تحمي التعددية السياسية، تحت إشراف النخب الحاكمة الفلسطينية، لم يحدث. والقضية الفلسطينية، مثلها مثل العديد من التحديات الأخرى في الشرق الأوسط، هي نتيجة تقارب هذه القوى المزعزعة للاستقرار النابعة من اتجاهين متعاكسين.

  وقد شق الموضوع الخامس طريقه على مدى العقد الماضي الذي طغت عليه أحداث الربيع العربي. لا يتم التعامل مع الربيع العربي هنا على أنه حدث عابر ومفاجئ بل على أنه عملية تاريخية مستمرة في التطور. وإذا كانت هذه الانتفاضات حتمية نظرا لهذه الأنظمة الاستبدادية الهشة، فإنها، بالإضافة إلى ذلك، لا تزال مستمرة حتى اليوم. لقد قارنت هذه الفئة من المقالات حول الربيع العربي بالموجات التاريخية الأخرى من التحول الديمقراطي والإقليمي كما أنها سلطت الضوء على دور القوى الفاعلة المحافظة في المنطقة التي شنت باستمرار حملات مناهضة للثورة لعكس مسار التغييرات السياسية الناجمة عن هذه الانتفاضات.

ومع ذلك، تستمر الاحتجاجات حتى يومنا هذا، كما تحلل أحدث المقالات في هذه المجموعة. في عام 2019، شهدنا عودة الانتفاضات الوطنية في السودان والجزائر ولبنان والعراق، حيث يعيش السودان الآن انتقاله السياسي الخاص. ولا تزال الاحتجاجات والتمردات تحدث في بلدان أخرى في الشرق الأوسط، مما يدل على أن قدرة المواطنين البسطاء على مقاومة السلطة السياسية لا تزال طرفا حاضرا لا يغيب عن المشهد الإقليمي.

 تشكل هذه المواضيع الخمسة الخيط الناظم لهذه المجموعة من المقالات. وبإعادة قراءتها اليوم، أعتبر أن صحيفة لوموند ديبلوماتيك هي الفضاء الفكري الذي سمح لي بأن أصبح ليس فقط كاتب مقالات بل أيضا متعاونا معها. تمثل هذه المجلة بالنسبة لي المنتدى الذي بنيت من خلاله استقلاليتي ليس فقط كمفكر أكاديمي، ولكن أيضا كإنسان. في عصر ما بعد الحرب الباردة والتغيير وعدم اليقين في الشرق الأوسط، أنا فخور لرؤية المجلة تحافظ على جمهورها الدولي من القراء وتواصل معالجة القضايا الهامة في العالم المعاصر.

أن تكون مواطنا في العالم العربي

رحلة البحث عن سيادة القانون

يوليو 1995

ولا نظام ديمقراطي واحد، ولا سيادة واحدة للقانون في العالم العربي بأسره. إن هذا الوضع الفاضح مع تقدم الديمقراطية في كل مكان على كوكب الأرض، في أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا يزعِج ويحبِط الرأي العام العربي. فالأخير، الذي يزداد تحضرا وتعليما وتثقيفا، يطالب وضعا حقيقيا للمواطنة يسمح له بالكفاح بفعالية أكبر ضد الاستبداد والسلطوية الجديدين وضد هجوم التيار الظلامي الإسلامي المحافظ جدا.

في أوروبا، تطور التحديث السياسي للدولة القومية جنبا إلى جنب مع تحول مفهوم المواطنة. بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، وبعد صراع طويل ضد الاستبداد، تحول الرعايا، الذين كانت وظيفتهم الفردية الأساسية هي الانصياع لسلطة بشرية تجسد سلطة عليا، إلى "مواطنين"، شركاء كاملين في عقد اجتماعي قائم على سلطة وطنية ذات سيادة. وقد استند هذا العقد الجديد إلى مجموعة من القواعد - القوانين – التي أصبح الجميع خاضعين لها على قدم المساواة، ولكن شرعيتها تنبع من موافقة المواطنين أنفسهم. وفي شكل هذا العقد، الذي تحترمه جميع الديمقراطيات الحديثة، يخضع واجب الانصياع لقوانين الدولة للالتزام، وهو التزام الدولة، بضمان عدد معين من الحقوق الأساسية لمواطنيها.

ومع ذلك، وحتى في أكثر البلدان ديمقراطية، كان تعميم هذه الحقوق السياسية والوفاء بها نتيجة لسلسلة طويلة من الصراعات. ففي فرنسا، على سبيل المثال، بدأ تطبيق حق النساء في التصويت في عام 1945. وفي الولايات المتحدة، يعود تاريخ الاقتراع العام الحقيقي إلى أكثر من ربع قرن بقليل، عندما تم تمرير تشريع يضمن لكل المواطنين وخاصة للسود في الولايات الجنوبية، ممارسة حقوقهم المدنية. وفي بعض الأحيان، انطوى هذا التقدم الديمقراطي أيضا على تسويات وسطية مع الأشكال التقليدية للسلطة السياسية: فالمملكة المتحدة لا تزال ملكية بدون دستور مكتوب.

وقد حدثت المراحل الأخيرة من هذا التقدم في مفهوم المواطنة في بلدان أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية مؤخرا، بمناسبة الأزمات الاقتصادية الكبرى، عندما حصل "المواطنون" على أن العقد الاجتماعي يشمل بعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الإطار العام لدولة الرفاه للجميع. وكان هذا التوسع هو الذي ضمن الحفاظ على النظام الليبرالي والبرجوازي في أوروبا الغربية.

والغريب في فضاءات أخرى، في الدول المستقلة حديثا في العالم العربي، أن نسخة من دولة الرفاهية المدعومة بالتعبئة الجماهيرية كانت الأداة المفضلة للانسجام المدني، وسبقت - ومنعت في كثير من الأحيان – الاستفادة من مجموعة لا بأس بها من الحقوق السياسية. وقد وفّرت عدة أنظمة عربية، أحيانا ملكية وأحيانا جمهورية، لمواطنيها التعليم المجاني، والضمانات الاجتماعية والطبية، وحماية الوظائف كرموز للانتماء إلى المجموعة الوطنية. ولكن من خلال القيام بذلك، بدلا من تكوين مواطنين بالمعنى الحديث للكلمة، أنتجت هذه الأنظمة رعايا سياسيين يعتمدون، من أجل التمتع بحقوقهم المدنية والاجتماعية، على رغبة حكامهم.

دور الأسرة

وعلاوة على ذلك، فإنه وراء مبرر الاستجابة للمطالب الشعبية بالتحرير الوطني والعدالة الاجتماعية، كثيرا ما تجاهل القوميون العرب، المحافظون أو التقدميون، الاهتمام بالحقوق المدنية والسياسية للمواطنين.

وبهذا المعنى على الأقل، فإن كلمة "مواطن"، المعروضة بفخر في نص معظم الدساتير العربية، ما هي إلا تجاوز لغوي.  إن مصطلح "المواطن" الحقيقي (الترجمة المعتادة لكلمة "مواطن" في اللغات الأوروبية) له دلالة مختلفة تماما لأنه يشير إلى رعايا سياسيين يعتبر خضوعهم إلى سلطة الدولة أمرا حتميا، ولكن ولاءهم يظل دائما موضع توجّس، ولا تمنح لهم الحرية إلا بشكل مؤقت.

وفي هذا السياق، يواصل مواطنو العالم العربي كفاحهم من أجل تأسيس أشكال ديمقراطية من الحكم، وهو كفاح يتأثر حتما بالخصوصيات التاريخية والمعطيات الثقافية لكل بلاد.

خلال عدة سنوات، ناقش المؤرخون وعلماء الأنثروبولوجيا وعلماء السياسة فشل (أو عدم استعداد) الدول العربية لإنشاء مجال للمواطنة السياسية مع حقوق وواجبات صريحة ومحددة بوضوح. واعتبر التأثير المهيمن الذي تلعبه الروابط الأسرية والقبلية في بنية المجتمعات والثقافات العربية عاملا حاسما لتفسير هذه الحالة. وفي الواقع، تظل الأسرة في الوقت نفسه مركز التنظيم الاجتماعي والنشاط الاقتصادي والاستمرارية الثقافية. ومن الواضح أن تراكب النماذج الأبوية التقليدية في علاقات السلطة غير الأسرية يغرس تكوين الرعية من الناحية السياسية.

 وبطبيعة الحال، فإن التنمية الاقتصادية والتصنيع والتحضر وتعميم التعليم العام كلها عوامل غيرت، على مدى السنوات الأربعين الماضية، دور وحدة الأسرة في الكثير من المجتمعات العربية. ولكن، بقدر ما ظلت هذه التغييرات غير متوازنة ومحدودة وغير مكتملة، لا تزال الأسرة تقوم بوظيفة حاسمة ومزدوجة على حد سواء: فمن ناحية، تظل ركنا أساسيا للتضامن والدعم، تحد من العواقب السلبية للصعوبات الاقتصادية وتضمن استدامة القيم الثقافية.  ولكنها في الوقت نفسه تعزز أشكال السلطة الأبوية وتسهل منع تطور علاقة مستقلة وراشدة بين الدولة والمواطن.

والعلاقة القائمة بين رب الأسرة، وهو شخصية سلطوية وسخية على حد سواء، والطفل، وهو تابع ومطيع تشبه العلاقة التي تربط بين الحكام وأفراد الرعية. في العالم العربي، غالبا ما يكون رئيس الدولة "أب الأمة". فالخدمات الاجتماعية المشروعة، على سبيل المثال، تقدم على أنها "عطايا نابعة من السخاء الشخصي " يمنحها الزعيم، وليست كامتيازات مستحقة جماعية تمنحها سلطة تنفيذية في إطار واجبها.

ومن المفارقات في أكثر البلدان تقدما أن هذا التوجس قد تجلى على أفضل وجه. وحتى في مصر خلال حكم الرئيس جمال عبد الناصر (1954-1970)، وهي آنذاك نموذج للتخطيط الاشتراكي في البلدان العربية وتوزيع الأراضي والإعانات الغذائية والخدمات الاجتماعية ولكنها كانت تقدم كهدايا شخصية من رب الأسرة الوطنية للأقارب المعوزين.

وهذا لا يعني أن البنية الأسرية القوية كافية لمنع المواطنة الديمقراطية، ولكنها تثير السؤال إلى أي مدى يمكن لهيكل معين من التبعية - وخاصة في نظام سياسي يواجه في الوقت نفسه أزمة التنمية والتحضر والتعليم وإرث التبعية الاستعمارية والتصورات الحالية للضعف الجيوسياسي وسلسلة من تصرفات تقديس الشخصيات الوطنية - أن يكون نموذجا صالحا لنوع نختلف من العلاقات مع السلطة. وبالتالي المساهمة في تأخير التطور السياسي في العالم العربي.

وتمثل الروابط القوية للتضامن القبلي والعرقي والديني النوع الثاني من التحديات التي تواجه المفاهيم الحديثة للأمة والمواطنة. ومن خلال التنافس على ولاء الشعب، تجد القبائل والدول القومية نفسها في حالة عداء جماعي أساسي. تاريخيا، تسبب تشكيل الدولة القومية الحديثة، التي تمارس احتكار السلطة القسرية، في محو تدريجي لأشكال السلطة والولاءات السابقة. ولكن في العالم العربي، تمكنت القبائل الهامة في شمال أفريقيا وشبه الجزيرة العربية وأعالي النيل والصحراء السورية من الحفاظ، بعد وقت طويل من أوائل القرن التاسع عشر، على درجات متفاوتة من الاستقلالية عن السلطة المركزية.

 وقد واجهت الدول الوطنية التي تأسست بعد رحيل الإدارات الاستعمارية، هذه المشكلة بطريقتين ولم تكن أي منهما متوافقة حقا مع المفاهيم الحديثة للمواطنة. وفي معظم الحالات، تعامل القادة العرب مع التحدي القبلي من خلال مزيج من القمع ومنح الامتيازات (الزواج، والتحالفات، والمحاباة الشخصية، والتحريض على التنافس، وما إلى ذلك). ولكن حيث هيمن النموذج الخلدوني اتخذت الدولة شكلا يمزج بين التضامن القبلي والسلطة المركزية، مع وجود مفاهيم العطف الأبوي والإحسان الديني. وتمثل الحركات السياسية والدينية في شبه الجزيرة العربية وشمال أفريقيا أوضح الأمثلة على هذا التطور. غير أن توسيع نطاق السلطة المركزية في هذه الحالات كان يستند إلى الإكراه أكثر منه إلى موافقة المواطن، الذي هو وحده أساس شرعية العقد الاجتماعي الحديث.

أما الدور السياسي للإسلام فهو عامل حديث نسبيا، وهو ما يطرح لتفسير مفهوم المواطنة في العالم العربي. وهذا تبسيط لتطور تاريخي معقد وقد لاحظ المعلقون الغربيون في كثير من الأحيان أنه في أوروبا، كان تطور الدولة القومية والمواطنة السياسية الديمقراطية مصحوبا بالعلمنة السياسية والفصل الدستوري بين الكنيسة والدولة، وهو تطور لا وجود له حقا في العالم العربي. وبطبيعة الحال، ادعت ما يسمى بالحركات السياسية الإسلامية، ولكن أيضا العديد من الأنظمة المحافظة، أنها تبني شرعيتها على الاندماج الكامل بين الدين والسياسة. وتجد الدول التي سعت إلى تشجيع العلمنة نفسها في موقف دفاعي، وتواجه إخفاقاتها ونتائج الأخطاء التي دفعتها إلى التقليل من شأن ارتباط المجتمعات العربية بالقيم الإسلامية. غير أن الاستحضار الديني للسلطة العليا كثيرا ما كان له أثر في تعزيز هياكل التبعية والولاء، مما يزيد من تأخير تطوير المواطنة السياسية الحديثة. ويمكن للاستعانة بالمفاهيم الإسلامية والتشبث بها، في شكلها الراديكالي أو المحافظ، أن تتحول بعد ذلك، باسم الولاء للتقاليد، إلى إضفاء الشرعية على نظام غير ديموقراطي يعمل على منع أي تجديد.

الاستعمال الجيد للإسلام

ومع ذلك، فإن الفكر والممارسة الإسلامية تتجاوز الإسلاموية الاستبدادية اليوم، ولا تعني عيوب الأخيرة بأي حال من الأحوال أن الإسلام في حد ذاته يتعارض مع وجود الحقوق السياسية والاجتماعية. بل يمكن القول في الواقع إن مجرد قمع حركات الإسلام السياسي يساهم في منع المواطنين من الاستفادة من منافع المواطنة وفي نفس الوقت التنكر للمبادئ التقدمية للإسلام المتمثلة في المساواة والعدالة. من الإسلام وقيمه يمكن أن تستمد ملامح الفضاء السياسي الديمقراطي. ولا يوجد نموذج للمجتمع العلماني أو الذي يفصل بين الكنيسة والدولة يطالب باستبعاده.

 كما وضع القرآن والسنة النبوية المبادئ التي تتوافق تماما مع فكرة المواطنة.  توصي الشورى بمناقشة المجتمع والتشاور معه. وفي التقليد الإسلامي، كانت الأشكال الخاصة لهذا الحوار الاجتماعي دائما موضع مناقشات حادة وتؤكد الحركة السلفية، وهي التيار الأكثر نفوذا بين الفقهاء والمفكرين المسلمين المعاصرين، أن الشورى اليوم تعني الانتخابات والبرلمانات. يوصي هذا الفكر الإسلامي باستعمال العقل البشري من أجل وضع القواعد الجديدة التي تسمح، كلما كانت النصوص المقدسة غير كافية لتحديد مسار العمل، بالتفاعل مع التغيير الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.

وأخيرا، يشجع الإسلام المجتمع على أن يقرر بتوافق الآراء أفضل السبل للنهوض بالصالح العام. على مدى عقود، حددت معظم البلدان الإسلامية خياراتها السياسية على أساس هذه التقاليد الإسلامية.

وعلاوة على ذلك، فإن إعادة ترسيخ المعتقد الديني في مواجهة السياسة ظاهرة لا تقتصر على العالم العربي والإسلامي وحده، فهي ظاهرة موجودة في بلدان مختلفة مثل إسرائيل والهند والولايات المتحدة. إن تقدم العلمنة لا يشير إلى اختفاء الدين من الفضاء العمومي. وحتى في الديمقراطيات الغربية المتقدمة، كان ذلك يعني في كثير من الأحيان حلا وسطا بين الدين والسياسة: فقد احتفظت المملكة المتحدة بديانة الدولة، وتقدم حكومة ألمانيا الدعم المالي لدور العبادة. ولم يفلح أي نموذج للتطور الاجتماعي والسياسي (لم تنجح النظم الديكتاتورية نفسها في ذلك) في الاستبعاد التام للديانة والمعتقد.

وبالعودة إلى الإسلام فإن قيم العدالة والمساواة والتضامن المجتمعي التي يحملها هي نفسها بعض الأسس والمكاسب لتطوير المواطنة الحقيقية. لا شيء في هذا الدين يمنع تأسيس فضاء سياسي ديمقراطي. وهذه هي الوظيفة التي ينبغي للحكام العرب أن يتصدوا لها دون تأخير لمواجهة تحديات نهاية القرن هذه.

الملكية المغربية التي أغراها الإصلاح لضمان التحول الديمقراطي واستمرارية العرش

سبتمبر 1996

في استفتاء أجري في 13 سبتمبر، صوت المغاربة على نص الدستور الجديد. ومن المتوقع أن يكون النظام المؤسساتي الجديد الذي يرغب فيه الملك الحسن الثاني قائما بحلول شهر مايو 1997 وفي مواجهة تحديات الفقر وغياب المساواة والفساد، يحتاج البلد إلى تغيير عميق في ثقافته السياسية، وخطوة هامة إلى الأمام على طريق الديمقراطية. هذا هو معنى مقترحات الإصلاح التي نقلها إلينا مثقف مغربي، من الرباط.

وعلى غرار العديد من البلدان، من المطلوب اليوم من المغرب إعادة تعريف نفسه(سياسيا) وهو وضع يفضي إما إلى التجديد وإما إلى التراجع للوراء. كيف يمكن مواجهة الوضع العالمي الجديد حيث يقترن المزيد من الصرامة الاقتصادية بالمطالب بالانفتاح السياسي والمزيد من التفاعل الثقافي؟ كيف يمكن الاستجابة للمزيج المضطرب من النضج السياسي المتزايد وانعدام الأمن الاقتصادي، ناهيك عن ارتفاع أعداد الشباب ونمو طموحاتهم؟ إنها حقا أسئلة ملحة، خاصة بالنسبة لبلد يجب أن يجيب عليها مع ضمان القدر الأدنى من رفاهية مواطنيه، واستمرارية تاريخه وتقاليده، وتعلقه بالإسلام. في فجر القرن الحادي والعشرين، سيتعين على الحزب المساهم في السلطة أيا كان، وعلى الملك المقبل، محمد بن الحسن (1)، أن يأخذا هذه القضايا بعين الاعتبار ويحظيا بدعم جميع المواطنين. يجب على المغرب أن يغتنم هذه اللحظة التاريخية وإلا فهو سوف يتراجع.

وفي مواجهة ديناميات التغيير العنيدة، يجب أن ينصب التفكير في العناصر التالية: توزيع المسؤوليات الحكومية، وضرورات الحالة الاقتصادية والاجتماعية، ودور الأحزاب، ومكانة النظام الملكي. ويجب توضيح النقاش التي بدأ بالفعل بدقة ومسؤولية بعد أن عاش المغرب أزمة الشرعية الحكومية في التسعينيات.

وقد جُربت محاولات متكررة من أجل “التناوب"، وكذلك جاءت المقترحات الأخيرة الصادرة عن الكتلة (الكتلة الديمقراطية لأحزاب المعارضة) لمعالجة الافتقار المتزايد إلى مصداقية الحكومات التي عانت من التداعيات العنيفة لبرامج التقويم الهيكلي المتعاقبة، وارتفاع معدلات البطالة وعدم المساواة، دون تحسن متناسب في معدلات الإنتاجية والاستثمار. وفي غياب مشروع اجتماعي تمت صياغته بوضوح وله مدة زمنية محدودة للإنجاز ويسبب غياب الشفافية لم تتمكن الحكومات إلا من رؤية مصداقيتها تنهار.

 وخلافا لشرط الانفتاح، احتكر طرف واحد، هو وزارة الداخلية، السلطة الفعلية، وهو طرف ما فتئت استقلاليته عن باقي المؤسسات تزداد رسوخا. إن فعالية هذه الهيئة، التي تستند إلى حد كبير إلى قدرتها على تسخير الموارد الأكثر تقدما من الناحية التكنولوجية وتوظيف المسؤولين ذوي التأهيل الجيد، تتحكم في الواقع في معظم المناصب والوظائف الوزارية الأخرى، بما في ذلك العدالة والتعليم والإعلام، مما يجعل أي نشاط، من الثقافة إلى الأرصاد الجوية، مسألة "أمنية". ومن خلال تعدد الوكلاء والشبكات الإدارية في الجهات والأقاليم حل منطق "الهاجس الأمني" محل منطق التنمية الجهوية.

 

استياء المواطنين

 وهذه الأساليب، بدلا من منع اندلاع المشاكل الاجتماعية والسياسية، تخفيها، إلى أن تؤدي خطورتها إلى عمليات مذهلة ولكنها تعسفية. إن إخفاء المعلومات الحيوية حول المشاكل البنيوية في البلاد يقلل من أي فرصة لحل المشاكل في ظروف جيدة. لقد تعرضت مئات النساء في مدينة الدار البيضاء للاغتصاب على يد مسؤول في جهاز الشرطة قبل أن يتم الكشف عن هذا التعسف، وهذا النوع من "الفعل غير السري" الذي يتعرف عليه الكثير من الناس شائع جدا في المغرب، وهو ناتج عن سياسة الترهيب، ويزيد من كراهية الشعب للنظام الحاكم.  إن تطوير ثقافة سياسية سليمة يتطلب إدانة جميع الانتهاكات، وليس التمويه عليها.

 وتبين "حملة التطهير الاقتصادي " الأخيرة التي تحاملت على عدد من رجال الأعمال أن التصدي المتأخر لمشاكل الفساد المعروفة يمكن أن تكون له آثار جد سيئة. وفي غياب نظام متماسك للرقابة والتعليل القانوني السليم، يمكن تفسير المبادرات الحسنة النية على أنها أشكال من الابتزاز القضائي. ولم تفلح التفسيرات غير الواضحة للحكومة، التي بررت هذه "الحملة" بتطور العلاقات الاقتصادية المغربية مع أوروبا، إلا في تأجيج غضب المواطنين، وكأن الفساد وإساءة استخدام السلطة لا ينبغي أن يصدما سوى الأجانب.

إن مشكلة الفساد في المغرب لا يمكن أن تكون مسؤولية وزارة واحدة، بل تستلزم إحداث تغيير عميق في الثقافة السياسية. ويجب أن يطبق القانون بالتساوي على الجميع، دون امتيازات بفضل العلاقات الشخصية أو الثروة. إن الامتيازات أمور شائعة في العديد من المجتمعات، وسيكون أمام المغرب بذل الكثير من المجهودات من أجل وضع حد لعادات النخب الفاسدة. لا ينبغي لأحد أن يضطر إلى تقديم رشوة للحصول على تصريح أو شهادة إدارية من أي نوع، ولا ينبغي لأحد أن يفعل ذلك للإفلات من دفع غرامة أو تجنب الاصطفاف في طابور الانتظار مثل غيره. وتثير هذه الممارسات اليومية المهينة غضب الناس الذين يفتقرون إلى الوسائل اللازمة للحصول على نفس المعاملة التفضيلية وهو ما يجعلهم يشعرون بالإهانة البالغة والدوس على كرامتهم.

وهذه الإحباطات، مقترنة بالتضحيات التي يفرضها الواقع الاقتصادي المتمثل في تزايد الفقر وعدم المساواة، تخلق وضعا اجتماعيا وسياسيا قابلا للانفجار. إن المغرب، الذي وقع في مأزق كبير بين الإصلاح الاقتصادي الضروري وعدم تسامح السكان المتزايد مع الآثار السلبية لفترات “التقويم الهيكلي " المتتابعة التي ينظر إليها على أنها استجابة لضغوطات الخارج، لا يمكنه أن يصمد بمفرده ويخفي اعتماده على الاقتصاد العالمي الذي تهيمن عليه القوى الكبرى.  ولا يزال انفتاحه على الاستثمار أمرا حيويا ويتطلب تحرير البنيات الاقتصادية من الضغوط السياسية التي تعمل على كبح ظهور نخب جديدة ومن التعقيدات البيروقراطية التي غالبا ما تكون ذرائع بسيطة لاستفحال الفساد.  ويجب أن تضمن السلطات ألا يفيد الإصلاح الاقتصادي المستثمرين فحسب، بل أيضا عموم أفراد الشعب.

إن أفات الفقر وعدم المساواة والفساد الرهيبة، التي يستنكرها الغرب حيث ينظر إليها على أنها تربة خصبة لما يسمى "التيارات الأصولية الإسلامية"، تتطلب سياسة متماسكة وطويلة الأجل. وإذا لم تشهد الحركات الأصولية في المغرب تطورا مقلقا بعد، فإن الخطاب الرسمي لا يمكن أن يزعم بسخرية بأنه "لا توجد مشكلة اسمها الإسلام السياسي ". وقد برزت هذه الظاهرة كتعبير عن مقاومة الآثار السلبية للعولمة الاقتصادية والثقافية، ويمكن أن تمثل بديلا، في غياب حركات خرى قادرة على تعبئة الجماهير أو، إذا لم يحدث ذلك، في غياب العدالة الاجتماعية. فالمناطق الحضرية الفقيرة تستسلم تدريجيا لتأثير الإسلاميين، بشبكات الرعاية الاجتماعية المحلية القوية، والجاذبية الأخلاقية لمشاركتهم المجتمعية وسمعتهم بنظافة اليد. في بعض الأحياء، لا يمكن الاحتفال بأي حفل زفاف، ولا تخليد عطلة دينية، دون موافقة مجموعة من الجماعات الإسلامية. كما أصبحت الكثير من الجمعيات الثقافية والمهنية والطلابية والنقابية تحت سيطرة هذا التيار الفكري.

لا يوجد لحد الآن حزب إسلامي يشارك في الانتخابات، لكن هذه الجماعات تؤثر كثيرا على نوعية التصويت: إن تزايد الامتناع عن التصويت والبطاقات الفارغة كلها تحديات صامتة تهدد مصداقية المؤسسات. ومع الانفتاح السياسي، من المرجح أن يحقق هذا التيار نجاحات انتخابية فورية، والتي لن تكون لها عواقب وخيمة إلا إذا أصبحت الأصولية المدافع الوحيد عن العدالة والتحرر. وبالتالي، سيتعين على الحكومات أن تنفذ إصلاحات اقتصادية أن تأخذ في الاعتبار الأمن المادي للفقراء بقدر ما تأخذ في الاعتبار رضا الفئة المحظوظة والبيروقراطيين، المغاربة أو الأوروبيين.  إن المغرب مجبر على الدخول في أشكال جديدة من الصرامة في التدبير الاقتصادي والمالي. ولم تعد رعاية الدولة كافية، وليس هناك ما يضمن أن يؤدي تطوير ديمقراطية سياسية إلى مزيد من الازدهار. وسيتعين على المعارضة أن تبرر مطالبها بزيادة الأجور وتحسين الخدمات العامة، استنادا إلى ميزانيات محسوبة بدقة.

والواقعية ضرورية ولكن يجب تسخير الجهود دون الخضوع الكامل لإملاءات السوق.  وتعتمد كل دولة على النظم الضريبية وآليات السوق أو الآليات التنظيمية وعلى قدرتها على التدخل، وفقا لضرورة خلق التوازن كملاذ أخير للاستجابة إلى الاحتياجات الاجتماعية والتقاليد الثقافية والتوقعات السياسية المحلية. ولا يمكن للمغرب أن يسلك طريقا مختلفا، وعلى شركائه وأصدقائه الأوروبيين أن يتفهموا ذلك.

وتتطلب هذه الخيارات الصعبة سياسات منسقة وموارد ضخمة ومساهمة الجميع. ويمكن معاقبة المسؤولين الفاسدين، الذين يزعجون رجال الأعمال ويزعجون الأفراد النزهاء من خلال الإشراف على مداهمات دورية، ولكن الحرص على الطابع المهني في الوظائف المدنية والشرطة هو وحده الذي سيسمح باستئصال الفساد على المدى الطويل. ويمكن أن تحاول الدولة الحفاظ على الاستقرار عبر ممارسة القمع، ولكن التكيف المسؤول للسياسات الاجتماعية والاقتصادية مع الاحتياجات الأساسية للمواطنين هو وحده الذي سيمهد الطريق نحو المستقبل.

ومع التحدي الذي أطلقه الملك لتكون سنة 1996 سنة التغيير ومساهمة الكتلة في الإصلاحات الدستورية، انطلقت دينامية بشأن أشكال الديمقراطية ومستقبل البلد. وكانت أحزاب المعارضة، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب الاستقلال في المقام الأول، تطرح مسألة الهيكل التشريعي ومسؤولية الحكومة أمام المواطنين.  وتستحق مقترحاتهم وسعيهم إلى الديمقراطية والمساواة والشفافية كل الاهتمام، نظرا لوجود جذور تاريخية وقاعدة شعبية عند هذه الأحزاب.

 

ضرورة تغيير نمط السلوك عند الملكية  

ومع ذلك، فإن مشاركة هذه الأحزاب في الحكومة ليست علاجا شافيا. وقد ظلت حتى الآن انتقائية للغاية في دفاعها عن الديمقراطية. إن الأيديولوجية القومية والسلفية (2) في حزب الاستقلال لا تزال، في جوانب عديدة، محافظة جدا مما يجعلها تدافع عن مفهوم ثابت للمجتمع؛ بينما تهدف شعبوية حزب الاتحاد الاشتراكي إلى حشد الحشود بدلا من توجيه زخمها.

وكانت هذه الأحزاب، التي كانت مترددة في الانضمام إلى دعوة مليون امرأة مغربية لإصلاح قانون الأحوال الشخصية، تشاطرت الحماس الشعبي لمساندة دول عربية "تقدمية" ولكن غير ديمقراطية. كما أنها تميل إلى التعبئة بناء على الإحباط الاقتصادي أكثر من تقديم برامج واضحة. ولن يخلو تحولهم من حركات الاحتجاج إلى قوى تدبيرية من صعوبات.

خاصة وأن مشكلة الأجيال تؤثر على هذه الأحزاب وعلى الحياة السياسية المغربية برمتها. وعلى أمل تحقيق الديمقراطية التعاقدية، فقد لعبت منذ زمن طويل دور "المعارضة المخلصة"، وهي جزء لا يتجزأ من نظام انتخابي تعددي مُسيّج، لم يعد يؤدي وظائفه كآلية للتكامل الاجتماعي. ووفقا لهم، فقد أُبعِدوا عن السلطة عن طريق القمع والتلاعب بالانتخابات، ومع ذلك شاركوا في لعبة سخيفة من المكافآت والمحاباة وتوزيع الامتيازات. إن الشباب المهمش والطبقات الحضرية الفقيرة، أي غالبية المغاربة الذين سيقررون حقا مستقبل البلاد، غير مقتنعين بأن توجهات وممارسات المعارضة تؤهلها لإخراج البلاد من الأزمة.

إن التفكير في مستقبل المغرب هو قبل كل شيء التأمل في مكانة ووظيفة النظام الملكي، محور النظام السياسي. وفي هذه الفترة الانتقالية، ستشتد الضغوط لإعادة تحديد دوره. وفي الوقت الذي تجري فيه مناقشة الإصلاح الدستوري ووصول القوى السياسية الجديدة إلى السلطة، لا مفر من هذه التأملات. ومن اللافت للنظر أن النظام الملكي يتمتع باعتراف واسع النطاق بسبب جذوره الثقافية في التاريخ، والانحياز الإيجابي لدى الجميع، المواطنين والأحزاب، لدوره المحوري في التغيرات التي تلوح في الأفق. إن الملكية في المغرب تبدو كالمرجع الذي يلعب دور عامل الوحدة ومؤسسة الوساطة، وهذه من ثوابت المجتمع المغربي.

ولتمكين النظام الملكي من أن يصبح سلطة مرجعية، ويأخذ بعض المسافة من الشؤون اليومية، سيحتاج إلى إطار قانوني ومؤسساتي جديد يستطيع ترشيد وظيفته. وينبغي دراسة مقترحات الإصلاح في ضوء مزاياها، والتغيرات في الثقافة المغربية والسياق العالمي. وقبل كل شيء، سيتعين عليهم الاستجابة للتسلسل المنهجي. ومن الواضح أن النظام الملكي للقرن الحادي والعشرين سوف يسود بشكل مختلف.

ومن خلال اتخاذ المبادرة للتكيف الضروري، لا يمكن للملكية إلا أن تخرج معززة من هذه الاضطرابات، في حين أنه، بإنكارها ضرورة التحول والتكيف فهي سوف تغامر بإضعاف نفسها وربما بشكل قاتل. وفي زمن التحول الديمقراطي الذي نمر به، يمكن أن يتغير مناخ العلاقات الودية وحسن النية الذي تستفيد منه، وبسرعة كبيرة؛ والأمثلة على ذلك كثيرة. إن قدرة الملكية على إدارة المشاكل اليومية ليست هي التي تضمن تجديدها وتجديد الحياة السياسية في المغرب، بل قدرتها على إعطاء المثال في تصرفاتها واستنادها على قوة دفع مجتمعية تشجع المواطنين على الالتحام حولها وحول إسلام قوي ومستنير.



(1) ولي العهد الحالي.

(2) الإيديولوجية السلفية التي ظهرت إبان الكفاح من أجل الاستقلال.

المسلمون ومواطنون العالم

الحرب العالمية الشاملة ضد هذا الخطر الداهم

أكتوبر 2001

لقد تغير العالم منذ هجمات 11 سبتمبر2001.  وفي حين لم يتم بعد تحديد الجناة على وجه اليقين، إلا أنهم على الأرجح أعضاء في شبكة إسلامية عابرة للحدود الوطنية. وسواء كانت هذه الشبكة بقيادة شخصية أسامة بن لادن أو زعيم آخر، فإن هذه الهجمات تجعل من الضروري دراسة العواقب العالمية على البلدان العربية الإسلامية وعلى العالم كله

إن هذه الهجمات الشنيعة تتغذى على غضب وإذلال أولئك الذين تركهم نظام عالمي وراء ظهره وعمل على تهميشهم في العالم العربي والإسلامي. إن وجود شبكة قادرة على مثل هذا العنف الشديد باسم الإسلام يجبرنا نحن المسلمين على توضيح موقفنا من تيار “الأصولية الإسلامية" ولكن العالم الغربي له نصيبه من المسؤولية ولكن لا يمكننا تجاهل مسؤوليتنا نحن أيضا. وأشير هنا إلى ظهور تيار إسلامي شمولي سياسيا واجتماعيا، منتظم في جماعات مسلحة تروج لتفسيرها الخاص للنصوص المقدسة. إن غالبية المسلمين يريدون أن يعيشوا ويمارسوا عقيدتهم في سلام جنبا إلى جنب مع جيرانهم من مختلف الأديان، والاستفادة من الإمكانيات الجديدة التي يوفرها العالم المعاصر. فهم لا يسعون إلى إجبار المواطنين المسلمين وغير المسلمين في بلد ما على العيش حسب نفس النمط.  وهم لا يريدون شن حرب ضد العالم لنشر عقيدتهم. هذه التوترات بين الأسلوب المفتوح والطريقة الشمولية للعيش في عقيدة المرء لا تتعلق فقط بالمسلمين. يوجد تيار مسيحي أصولي في الولايات المتحدة، يستخدم خطابا لا يختلف عن خطاب بن لادن. وباسم مطالبهم الدينية بتأسيس إسرائيل الكبرى، فالمستوطنون اليهود المتطرفون مستعدون أيضا لقيادة العالم إلى حرب شاملة. كان لوجود الحركات الإسلامية على الجماهير المحرومة من الموارد في المجتمعات الإسلامية تأثير على زيادة عزل النخب الإسلامية العالمية. وتعيش هذه النخب بارتياح في ظل أنظمة لا تزال تتسامح مع غياب المساواة وانتشار الفقر المدقع وهي الأنظمة التي وظفت الحركات الإسلامية في البداية لقمع أشكال أخرى من المعارضة. 

 إن نجاح هذا النوع من الإسلاميين يثبت أن المسلمين المحبين للحرية لم يتمكنوا من الدفاع عن قضيتهم بقوة كافية، كما يظهر الحاجة الملحة للعمل الذي يتعين إنجازه. إن كل مسلم يعيش اليوم في عالم متعدد الأعراق والثقافات والطوائف، يجب أن يدافع بشغف واقتناع عن إسلام منفتح ومتسامح، وهذا يعني أنه يجب علينا أن ندافع بنفس القدر عن العدالة الاجتماعية والمؤسسات السياسية الديمقراطية والعلاقات الدولية التي تحترم كرامة وسيادة جميع الأمم. 

وتتطلب هذه الالتزامات قدرا كبيرا من الشجاعة السياسية، التي بدونها لن نتمكن من منع الإسلام من الوقوع فريسة في أيدي القتلة الذين يختطفون العقيدة الإسلامية. لا يوجد أي تناقض في أن تكون في الوقت نفسه مسلما ومدافعا عن الفقراء والفلسطينيين ومواطنا من مواطني العالم. ويجب أن نكافح من أجل هذه الأفكار في مجالاتنا الاجتماعية. إن أحداث 11 سبتمبر تذكرنا بالطابع الملح لهذه المهمة. نحن المسلمين هم المعنيون الأوائل بهذا التحدي الذي أصدره مرتكبو هذه الهجمات وعلينا أن نعالج الأمر بحزم. 

والأخطار الناشئة عن هذه الأحداث خطيرة للغاية. هذه ليست أعمالا إرهابية مثل أي أعمال أخرى، تلك التي ارتكبها، على سبيل المثال، الجيش الجمهوري الأيرلندي، أو منظمة إيتا الباسكية أو الفلسطينيون في السبعينيات، أو حتى "التفجيرات الانتحارية" الأخيرة في الشرق الأوسط. إن الغرض من هذه الأفعال هو لفت الانتباه إلى المظالم شكوى أو الانتقام من فعل معّين. وهي دائما دعوة إلى إصلاح ما ينظر إليه على أنه ظلم. وإعلان المسؤولية من طرف ما هو ما يمنحها معنى سياسيا. 

ولا ترتبط هجمات 11 سبتمبر بأي حالة محددة. ليس لدى مرتكبيها دافع رئيسي لإصلاح خطأ معيّن، بل هم جزء من استراتيجية، متجذرة في قناعة دينية، تهدف إلى جر العالم الإسلامي إلى حرب عالمية ضد "الغرب" بأكمله مع الاقتناع أن "العالم الإسلامي" هو الذي سيخرج منتصرا.

إن الجماعة الصغيرة المسؤولة عن هذه الهجمات تعرف أنها لا تستطيع أن تباشر مثل هذه المواجهة إلا إذا تمكنت من إثارة الغضب والتصميم المطلقين عند جزء كبير من المسلمين مثلما الغضب الذي يحفز بضعة آلاف من أعضاء حركتهم. ومن هنا جاء الرفض المنطقي لإعلان المسؤولية عن هذه الهجمات. والهدف من ذلك هو إثارة صراع أوسع نطاقا. ويريد المهاجمون أن يكون من الصعب معرفة من يجب إدانته بالضبط ومن يجب ضربه وأن يجعلوا من الصعب عدم الانتقام من مجموعة واسعة من الأهداف الإسلامية، على أمل أن يثير الانتقام العشوائي سخط كل المسلمين.

غياب الحق في ارتكاب الخطأ

وإذا حققوا هذه النتيجة، فإنهم سيكونون قد انتصروا في معركة حاسمة وسيستعدون لخوض المعركة المقبلة التي لا مفر منها بقوة أكبر. إن الانتفاضة العامة في العالم الإسلامي، أملهم الوحيد في النصر، ستكون وشيكة أكثر. 

ويجب علينا الآن أن نأخذ تصرف مرتكبي هذه الهجمات على محمل الجد، إنهم يتحدثون عن الحرب المقدسة منذ وقت طويل وهو ما كنا نعتبره كلاما فارغا منذ مدة. لقد لفتوا انتباه العالم إليهم وهو ما يجبرنا على أن ندرك حجم تصميمهم. إن أي شخص يعرف العالم الإسلامي لن يجد صعوبة في تخيل إمكانية مثل هذه الانتفاضة، إن لم يكن على النطاق المروع الذي يتصوره القراصنة، ولكن على الأقل على نطاق إقليمي أو وطني.

 كيف يمكن لبضعة آلاف من الأفراد أن يبروا نسختهم من "صراع الحضارات" الذي لا يرغب فيه أحد؟ ولا يحتاج المرء إلا إلى النظر في العواقب المحتملة للانتقام الأمريكي ليرى أن قراصنة الطائرات ربما وجدوا إجابة على هذا السؤال. 

وسترد الولايات المتحدة على هذه الهجمات بقوة شديدة، ليس فقط بدافع الانتقام، ولكن لأن الهجمات لن تتوقف إلا بعد استئصال جذورها. ولكن، للأسباب المذكورة، من الصعب استهداف المنبع الحقيقي. إنها شبكة متواضعة ومشتتة ومختفية، يتحرك أعضاؤها ضمن كتلة من الناس الذين يشاركونهم إحباطاتهم. ويمكن أن يخرج الصراع عن نطاق السيطرة. وفى حالة شن هجوم أمريكي على افغانستان، سيكون نوعا من التحدي بالنسبة لباكستان. وليس من مصلحة أحد أن يرى إقامة نظام إسلامي على غرار نظام طالبان في بلد يمتلك أسلحة نووية. كيف سيكون رد فعل الهند، وهي قوة نووية أخرى؟ وماذا عن الصين؟ كيف سيكون رد فعل روسيا في الشيشان وفي جميع أنحاء القوقاز؟ 

وستؤثر الأحداث المقبلة على المجتمعات المسلمة في بلاد البلقان، وكذلك على الطائفة المسلمة المحلية في أوروبا الغربية، التي استقرت مؤخرا. وإذا لم تحقق الولايات المتحدة بسرعة نتائج تتناسب مع حجم الكارثة، فقد يغريها المرور إلى تصعيد خطير. فإذا هاجمت العراق، فإن الصراع سينتشر، والاضطرابات لن تتأخر عن أي بلد. 

 ولهذا السبب فإن الاستراتيجية الأمريكية الأكثر فعالية هي استهداف الرد الانتقامي بدقة شديدة. وفي الوقت نفسه، سيتعين على الأميركيين مقاومة إغراء الضغط على الحكومات العربية لمهاجمة التيارات الإسلامية السلمية بشكل غير منصف الأمر الذي من شأنه أن يخلق حلقة مفرغة على المستوى الوطني من الأحسن تجنبها. ولا يسع المرء إلا أن يأمل في التمكن من عزل الجناة، وردع المجندين الجدد، ومنع الانتفاضة من خلال مقاربة شاملة.

 وتتطلب هذه الاستراتيجية إعادة تقييم أساسية للسياسة الأمريكية تجاه المجتمعات العربية والإسلامية. أولا، يجب على الولايات المتحدة أن تطالب بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وأن تقبل حق الفلسطينيين في دولة مستقلة تكون القدس عاصمتها مدينة القدس وهي مدينة مقدسة بالنسبة لجميع المسلمين.

 إن إعادة النظر في سياسة الولايات المتحدة هذه هي الشرط الذي لا غنى عنه لأي "انتصار" في هذه "الحرب من نوع جديد". إن التذرع بالصبر، والوعد بالتعامل مع مشكلة فلسطين بعد حل مشكلة الإرهاب، لم يعد له مصداقية.   لقد استخدمت هذه الورقة أكثر من اللازم: فالورقة الأخيرة تعود إلى حرب الخليج، قبل عشر سنوات، وما زلنا ننتظر النتيجة. ووفقا لما سيتم القيام به بشأن هذا الموضوع، اعتبارا من اليوم، فإن مئات الملايين من المسلمين والعديد من الأوروبيين سوف يختارون معسكرهم على الفور انطلاقا من القرارات الأمريكية.

  ويتعين على الولايات المتحدة أيضا أن تفكر في مسؤوليتها عن خلق "إرهاب" يأتي بنتائج عكسية.  لقد روجوا لهذا "الإرهاب"، وأنشأوا شبكات لتحقيق غاياتهم الخاصة، ودعموا الأنظمة القمعية التي ترهب شعوبها. هل ستقوم بنقد ذاتي بعد توظيفها للمتشددين مثل العديد من الأنظمة العربية، لخدمة مصالحها الخاصة؟

 إن العنف أصبح معولما، فالصراعات والظلم والضحايا الموجودون “هناك" يطرقون أبوابنا والسياسة الدولية تعني السياسة المحلية، وسيتعين على القادة أن يتحملوا مسؤولية أفعالهم أمام العالم بأسره. فالفقر وعدم المساواة والقمع والغطرسة كلها مشاكل يجب معالجتها. إن ويلات العولمة الليبرالية الجديدة تنطلق من وول ستريت ويصل مفعولها إلى قرى آسيا الوسطى. هذه قضايا تهم الأمن الدولي وهذه المرة، لا أحد لديه الحق في ارتكاب الأخطاء.

العالم العربي أمام القدر المحتوم

كيف سيواجه الاحتلال الأمريكي للعراق

أكتوبر 2003

إن السلم الأمريكي أو باكس أمريكانا" يبدو كفرصة بعيدة المنال. في فلسطين، انتهى بقرار طرد الرئيس ياسر عرفات بإقبار فكرة "خريطة الطريق". وفي العراق، تنتشر الفوضى مع عودة الهجمات التي تستهدف المحتل، ولكن أيضا المتعاونين معه والأمم المتحدة وكل ذلك بدون استعادة السيادة للعراقيين، فإن تصويت أعضاء مجلس الأمن قرار جديد لن يكون كافيا لإخراج الولايات المتحدة من المستنقع. ولذلك، يواجه السيد جورج دبليو بوش، قبل ثلاثة عشر شهرا من الانتخابات الرئاسية، الإخفاقات الأولى لاستراتيجية المحافظين الجدد في "نشر الديمقراطية " في الشرق الأوسط. هل سيتمكن العالم العربي من أخذ زمام المبادرة مرة أخرى

"كن حذرا عما تسأل فربما تحصل عليه "، يقول المثل، ويبدو أن الولايات المتحدة قد حققت ما أرادته في العراق: انتصار ُعسكري سريع - قضى على صدام حسين وكل التهديدات التي كان يمثلها - وخطوة على طريق خطتها لإعادة تشكيل الشرق الأوسط ديمقراطيا. 

وأيا كان رأي المرء في هذه الاستراتيجية، فإن واشنطن لديها بلا شك واحدة وهي استراتيجية جريئة متمثلة في قوات ضخمة تم حشدها لتحقيق أهدافها. وإذا لم يعجبنا ذلك، فإن الأمر متروك لنا لحشد قواتنا لخدمة أهدافنا. ولكن يجب علينا أيضا أن نعترف بالتفاوت الذي لا يمكن إنكاره في حجم القوات. إن غالبية دول العالم عارضت هذه الحرب، لكنهم لم يتمكنوا من وقفها.  والأمر الأكثر إثارة للشفقة هو أن العالم العربي والإسلامي لم يستطع مقاومة هذا المشروع، ولم يعد لديه القوة ليجد فيه الوحدة ولا الإرادة من أجل الدفاع عن مصالحه. إن الشعارات الرنانة حول الوحدة العربية اختفت تاركة المجال للاعتراف المحبط بالضعف السياسي والاجتماعي والعسكري المنهك.  وإلى أن نتغلب على هذه الثغرة الأمنية، فإن الأولويات سوف يحددها الآخرون. وبقرارها غزو العراق، وضعت الولايات المتحدة جدول أعمال عليها وعلينا التعامل معه كأمر واقع وأملنا الوحيد الممكن هو أن يستغل الحكام العرب الفرصة لإعادة تشكيل الهدف بطريقة مفيدة لشعوبهم. 

ومن وجهات نظر القومية العربية الليبرالية والبراغماتية والديمقراطية، هناك حاجة إلى العديد من التغييرات في الشرق الأوسط. إن الرفض العنيد للإصلاح الديمقراطي، واستمرار الأنظمة السياسية القائمة على رجل قوي أو حزب واحد، وعدم القدرة على حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الصارخة، والنفوذ المتزايد للتيارات الأصولية والجهادية، وتكاثر الأوضاع السياسية ذات الاستقطاب بين الأصولية والسلطوية العلمانية: كل هذه العناصر تساهم في رسم مشهد مؤلم للغاية. ولم تظهر هناك أي حركة قادرة على تحفيز التطور سواء كان ذلك بمبادرة من الأنظمة أو النخب أو الشارع.

 في عالم يعاني من عدم استقرار الدول وعدوانية الأطراف الفاعلة التي لا تعاني عدم الاستقرار، هناك أسباب وجيهة للشعور بالرغبة في تطور المجتمعات العربية. وقد سلطت أحداث 11 سبتمبر 2001 الضوء على هذا الهاجس فأصبح في مقدمة اهتمامات الغرب.  ويبدو أن الشرق الأوسط قد حل محل أوروبا كمركز للسياسة العالمية حيث الطريق هو التفرع والخيارات الحاسمة لمستقبل العالم سيتعين اتخاذها قريبا.

رؤية تم تطويرها قبل 11 سبتمبر

  وبدلا من ساحة المعركة في "صراع الحضارات"، دعونا نفكر في صياغة بوتقة تنصهر فيها معايير عالمية جديدة للتوازن والتعاون. وتشمل هذه الأفكار مفاهيم الديمقراطية، والشرعية الشعبية والقانون الدولي، والدفاع عن النفس، والسيادة الوطنية، ولكن أيضا فكرة "السبق"، مع الحق في امتلاك أو استخدام أو التهديد باستخدام وسائل العنف، على نطاق محدود أو واسع النطاق، لتحقيق غايات محددة.

 إنها كثير من المفاهيم التي لا يزال الخلاف قائما بشأنها، وهو أمر ليس مفاجئا. ومع ذلك، فإن المحاولة الأمريكية لفرض اتجاه على هذا التطور التاريخي، مهما كانت جريئة، فهي مليئة بالتناقضات. وهو مشروع قد تختلف آثاره الحقيقية اختلافا جذريا عن الأهداف المنشودة.

 إن أكثر دوافع واشنطن إصرارا على التدخل في العراق تشمل وجود أسلحة الدمار الشامل، وعلاقات صدام حسين بتنظيم القاعدة، والتهديد الذي يشكله النظام البعثي- هي في الواقع أقل الدوافع إلحاحا. وقد تآكلت مصداقيتها المحدودة جدا عند المجتمع الدولي، إلى حد كبير، حتى في الولايات المتحدة، لدرجة أنها لا تستحق أن نتناولها بالحديث. والواقع أن أشد المدافعين عن الحرب حماسا في الحكومة الأميركية اعترفوا بأن هذه المبررات هي "مبررات للراحة النفسية " أكثر من الواقع. 

ويمكن تفسير التصرف عمل الأمريكي بشكل مختلف. وتشير الحقائق الثابتة إلى أن غزو العراق يمثل الخطوة الرئيسية الأولى في إعادة رسم   الجغرافية السياسية العالمية والدور الذي تعتزم الولايات المتحدة القيام به مستقبلا. وقد وضعت هذه الرؤية قبل 11 أيلول/سبتمبر، ولكن الجرائم المرتكبة في ذلك اليوم ساعدت على كسب تأييد الشعب الأمريكي وتحولت إلى حرب عالمية على الإرهاب.

نشرت استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة في شهر سبتمبر 2002. وقد تحدث الصحفي ويليام بفاف William Pfaff عن ذلك باعتباره "إدانة أمريكية ضمنية لنوع الدولة الحديث الذي يحكم العلاقات الدولية منذ عام 1648 ومعاهدة وستفاليا ...والهدف هو استبداله بمبدأ الشرعية الدولية الموجود (1).  وتابع بفاف أن هذه الوثيقة "تؤكد أنه إذا قررت الحكومة الأمريكية من جانب واحد أن دولة ما تشكل تهديدا مستقبليا للولايات المتحدة، فإنها ستقرر لأن تتدخل بالقوة بشكل وقائي للقضاء على التهديد، وإذا لزم الأمر من خلال "تغيير النظام" (2) في تلك الدولة. وتدعو الوثيقة إلى ترسيخ الهيمنة الأمريكية في جميع مناطق العالم وتصر على أن الولايات المتحدة "ستتصرف بشكل وقائي"، من أجل "استباق " أعمال عدائية من جانب خصومها وردع الخصوم المحتملين عن زيادة قوتهم العسكرية. 

ووفقا لهذه العقيدة السياسية، يجب على الولايات المتحدة أن تضمن بالفعل "قوة عسكرية لا مثيل لها" لكي تتمكن من فرض إرادتها في كل مكان. ولذلك، يجب عليها أن تتفادى بروز دول قادرة، من خلال أسلحتها النووية، على عرقلة أهداف أمريكا - والعراق يمثل، في هذا الصدد، بلدا رئيسيا جد هامة. ولكن الأمر يتعلق أيضا بمنع القوى النووية المتنافسة مثل روسيا أو الصين من الجرأة على التشكيك في هيمنتها العالمية الشاملة.

تمثل الحرب في العراق تتويجا لعقد من العمل الفكري والسياسي المكثف من قبل مجموعة صغيرة من المحافظين الجدد (3)، الذين شكلوا، جنبا إلى جنب مع الأصوليين المسيحيين ومناصري القوة العسكرية، تحالفا إمبراطوريا جديدا تأسس في فترة الرئيس جورج دبليو بوش.

 وفي الشرق الأوسط، تنطوي هذه الاستراتيجية على تغيير جذري في مسار التاريخ من خلال تعزيز القيم السياسية والاقتصادية الأميركية، على أمل أن تتبعها قيم تكميلية - أخلاقية وثقافية وحتى دينية. ووفقا لهذا السيناريو، من المفترض أن يؤدي غزو العراق إلى وقف انتشار الأصولية الإسلامية، وإضعاف الدعم للمقاومة الفلسطينية، وجعل الفلسطينيين والعرب يقبلون خطة "السلام" على رغم أنفهم. كما يهدف إلى وضع الولايات المتحدة في قلب منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك) من أجل تعزيز الانضباط في تحديد أسعار النفط الخام وتقوية الدولار بصفته عُملة محورية في العالم. 

هذه رؤية جريئة تكاد تكون تبشيرية. وقد ساعد بعض العلماء مثل برنارد لويس وفؤاد عجمي في إقناع واشنطن بأن انحطاط العالم العربي غير القادر على إصلاح أحواله من شأنه أن يولد أشكالا أكثر ضراوة من الإرهاب المعادي للولايات المتحدة. والوعد الذي قطعه عصر ما بعد 11 سبتمبر هو أن القضاء على أنظمة مثل نظام صدام حسين وتحويل الثقافة السياسية في الشرق الأوسط سيحول دون حصول الجماعات المتطرفة مثل تنظيم القاعدة على أسلحة الدمار الشامل. ولذلك فإن هذه الاستراتيجية تكتسي طابع الضرورة الدفاعية. 

وفي الواقع، يأتي التهديد الحقيقي من الأسلحة النووية، التي تتطلب موارد صناعية وعلمية أقل انتشارا وأسهل في الحصول عليها. تستخدم الحكومة الأمريكية مصطلح "أسلحة الدمار الشامل" للخلط بين الأسلحة النووية والأسلحة البيولوجية والكيميائية، على الرغم من أن هذه الأخيرة صعبة الاستعمال وغير فعالة ولكنها سهلة التصنيع والإخفاء ويمكن اعتبار أي بلد عربي أو مسلم لديه صناعة بدائية للمنتوجات الكيميائية أو الصيدلانية الحيوية خطيرا: فقد يمنح يوما ما الأسلحة الكيماوية إلى جماعة إرهابية يمكنها استخدامها ضد الولايات المتحدة أو حلفائها. وهذا يعادل القول لبلدان الشرق الأوسط إن تحقيق مستوى معيّن من التنمية الصناعية سينظر إليه على أنه تهديد في حد ذاته إذا لم تكن هذه البلدان منخرطة بقوة في المعسكر الأمريكي. 

وبالإضافة إلى ذلك، وفي حين تطالب هذه الاستراتيجية بعدم تطوير الأسلحة النووية، فإنها تتخلى عن وسائل السيطرة على الانتشار النووي المقبولة دوليا، من خلال المعاهدات، لصالح مبدأ أكثر عدوانية وانفرادية و"وقائية" لأن مكافحة الانتشار النووي" تكرس حيازة الولايات المتحدة وحلفائها المقربين للأسلحة النووية والتهديد باستخدامها. 

والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن القوة العسكرية هي الوسيلة الرئيسية التي تتوخاها الاستراتيجية الجديدة لتحقيق أهدافها. وإذا لم تتحالف الدول الأخرى معها فإن الولايات المتحدة ستتولى مهمة جرها و"إقناعها "، من خلال "تغيير النظام" المفروض من جانب واحد، وهو ما يتحدى بشكل صارخ القانون الدولي. إن التزام أمريكا "الإنساني" و"التقدمي" ليس سوى غلاف رسمي للغزو والهيمنة بالقوة.  أما عن المشاكل السياسية والاجتماعية المحلية فهي سوف تحل بسرعة بعد عرض ساحق للقوة - اللغة الوحيدة التي تفهمها تلك الدول المارقة عن طاعة أمريكا. إن خطاب المحافظين الجدد بشأن "التحرير" و"نشر الديمقراطية" يزعم أنه قادر على هزيمة كل الثقافات العالمية.

قلق كبير أمام كل هذا الإصرار

ويمثل هذا المشروع العدواني رهانا كبيرا على فعالية التكنولوجيا العسكرية. والواقع أن المجتمع الدولي رفضها إلى حد كبير. أما بالنسبة للجمهور الأمريكي، الذي هو غامض جدا عندما يتعلق الأمر بالضحايا، فإنه لم يقبله إلا بعد أن اقتنع بوجود تهديد حقيقي وإمكانية حقيقية للنجاح. كان مؤيدو هذه الأحادية العدوانية يعرفون أنهم لن يفلحوا في التسويق لأعمالهم "في غياب حدث كارثي ومحفز – مثل الهجوم على بيرل هاربور الجديدة (4) وجاءت صدمة 11 سبتمبر فحصلوا على ما كانوا ينتظرون. 

وبعد أن أسكِتت الدوائر التقليدية لمؤسسة السياسة الخارجية الأميركية فإنها بدأت تشعر أيضا ببعض الغيظ إزاء هذا القدر الكبير من القسوة. إن الجميع يدرك الخطر الذي يتضمنه مشروع زعزعة استقرار العالم العربي بأسره. حتى وزير الخارجية السابق للرئيس جورج بوش الأب، السيد لورانس إيغلبرغر، قال: إذا قرر جورج بوش إرسال قواته لمهاجمة سوريا وإيران سأكون أنا من الرأي القائل بأنه ينبغي عزله (5)، إن إيران وسوريا، وحتى المملكة العربية السعودية، التي تتعرض لانتقادات متزايدة، توجد في مرمى النيران. 

إن تطور ات هذه البلدان الثلاثة سوف تؤدي إلى تفاقم التوترات في الولايات المتحدة بين التقليديين والمحافظين الجدد. وفي إيران، سوف يرغب الأوائل ل في إقامة علاقات مع الإيرانيين المعتدلين، من أجل تشجيع الإصلاح طويل الأمد للنظام السياسي، والتفاوض على حل للملف النووي، والحفاظ على إمدادات مستقرة من النفط، وعلاوة على ذلك، فالتعاون بشكل أفضل مع الشيعة في العراق. واقتناعا منهم بصعوبة القيام بعملية عسكرية ضد طهران، فإنهم يفضلون دعم التغييرات الجارية. وعلى العكس من ذلك، يفتقر المحافظون الجدد إلى الحد الأدنى من التريث اللازم للبحث عن تسوية مع هؤلاء المتدينين "غير الأصوليين" على أمل "ساذج" أن يتخلوا عن الأسلحة النووية "كما وعدوا". وهذا يشير إلى احتمال مواجهة وشيكة.

وفيما يتعلق بسوريا، تريدها واشنطن أن تتوقف عن دعم المقاتلين الفلسطينيين وحزب الله اللبناني. ولا شك أن التقليديين سيكونون على استعداد لمنحها بعض الضمانات في لبنان والجولان واستقرار النظام البعثي مقابل هذه التنازلات. ومن ناحية أخرى، يبدو أن الصقور مصممون على المواجهة، متهمين دمشق بإيواء أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها صدام حسين، إن لم يكن هذا الأخير بنفسه. وقد ذهبت القوات الاميركية في العراق الى حد اختراق الاراضي السورية التي تعتبر "أحد أكثر حلفاء الاستخبارات فعالية لوكالة الاستخبارات المركزية الاميركية (سي اي ايه) في الحرب ضد تنظيم القاعدة (6).

 وتجسد المملكة العربية السعودية المعارضة الراديكالية بين التقليديين والمحافظين الجدد. فالفئة الأولى، التي تهتم قبل كل شيء بالنفط، حافظت دائما على علاقات حمائية مع النظام الملكي السعودي، الذي يضمن، منذ الاتفاق الذي أبرم في عام 1945 مع الرئيس فرانكلين روزفلت، حصول الولايات المتحدة على موارد نفطية آمنة وغير مكلفة. وتعتزم هذه الأخيرة إظهار شيء من "القسوة" تجاه الرياض، التي تتهم، بالإضافة إلى دعمها للقضية الفلسطينية والراديكالية الإسلامية، بتمويل هجمات 11 سبتمبر أو أنها كانت على علم مسبق بحدوثها. إن كون أسامة بن لادن ومعظم الخاطفين سعوديون هو دليل على مخاطر الوهابية المتطرفة والإهمال تجاه هذه الأخير خلال الحرب الباردة يدفع المحافظون الجدد الآن بأن يفصلوا بين النظام السعودي نفسه وهذا التيار الإسلامي الوهابي الذي تقوم عليه شرعية النظام نفسه ... 

وهذا الهجوم الشامل وآثاره المتوقعة تقلق مؤيدي السياسة الخارجية المعتدلة. ويخشى هؤلاء، في الولايات المتحدة كما هو الحال في العالم، من أن يستفيد الأصوليون المتطرفون من أزمة تنتشر في جميع أنحاء المنطقة. لكن المتشددين لا يخجلون من فكرة الكارثة: فالنتائج السلبية القصيرة الأجل لن تؤدي إلا إلى التأكيد على الطبيعة غير الديمقراطية للأنظمة والمجتمعات التي تفرز الإرهاب وفي سلسلة من التحركات والهجمات المضادة التي ستنتشر مع مرور الوقت (7)، ستدفع الولايات المتحدة إلى توسيع المواجهة إلى أن تسود ثقافة ديمقراطية في جميع أنحاء الشرق الأوسط. 

هل سيغير العراق مسار التاريخ؟ وإذا كان الأمر كذلك، بأي معنى؟ إن احتلال العراق وإعادة إعماره يشكلان الآن نقطة انطلاق. ويبين التاريخ مدى صعوبة استعادة الثقة وبناء مؤسسات جديدة وإشراك طوائف ت مختلفة في مجتمع متعدد الأعراق تحت سيطرة قوة أجنبية. وفي البلقان، أتاح وجود تفويض دولي واضح وإدارة مدنية تقع سلطتها على عاتق المجتمع الدولي من خلال الأمم المتحدة، لجميع مكونات الشعب فرصة للتعاون من أجل إعادة البناء السياسي ومنع السلطات المدنية والعسكرية من أن تصبح هدفا لأعمال المقاومة.

 وتستند المهمة الأميركية الحالية إلى أساس أكثر هشاشة. إن الاحتلال الأمريكي للعراق هو نتيجة غزو أدانته غالبية دول العالم، ولم تطالب به أي طائفة وقد تدهورت البنية التحتية المدنية للبلاد: وبالتالي يجب أن تبدأ من الصفر لإعادة بنائها وتشغيلها ليستفيد منها العراقيون. وهذا ليس واضحا، لأنه لم يتم إعداد أي شيء عن فترة ما بعد الحرب. بيد أنه حتى استعادة الأمن، التي تشمل أجهزة الشرطة المحلية والنظام القضائي الوطني تتجاوز نطاق اختصاص الجيش. تمر الأحداث كما لو أن واشنطن كانت تعتقد أنها تستطيع استعادة جهاز الدولة البعثي سليما.

 إن حالة الدمار التي عرفها البلد وطموح الأهداف الأميركية تتطلب التزاما ماليا وبشريا هائلا. وإذا استمرت واشنطن على طريق القرارات الأحادية، فإن هذا الجهد سوف يعتمد على مواردها وحدها. لكن نصف قواتها المقاتلة موجودة في العراق، وتقدر تكلفة الاحتلال ب 60 مليار دولار سنويا. ولن تغطي عائدات النفط هذه التكاليف لسنوات. وقد يجبرها كفاية الولايات المتحدة في الأبعاد الدبلوماسية والسياسية لعملها على الاعتماد على مدخراتها الخاصة بطريقة باهظة. ولن يرغب أحد في دعم هذا الجهد إذا احتفظت أميركا بالسلطة السياسية وحدها. ولن يمضي أي شيء قدما بدون شرعية أوسع نطاقا. 

وحتى الآن ظل الحلفاء، وخاصة حلفاء "أوروبا القديمة"، الذين ظلوا غير مبالين بمطالب إرسال قوات إضافية وكأنهم ينتظرون بشكل محموم الحصول على دعوة من العالم الثالث وخاصة العالم الإسلامي قبل اقتسام العبء وفي هذه الظروف تتحول أمريكا مرة أخرى صوب تركيا. وقد أوضح بول وولفويتز مساعد وزير الخارجية لشؤون الدفاع، تصوره للديمقراطية باتهام الجيش التركي بعدم إرسال قواته منذ البداية، على الرغم من معارضة البرلمان. 

إن استمرار الهجمات ضد قوات الاحتلال يجعل مشاركة البلدان الأخرى أكثر حتمية وصعوبة. ولكن قبل كل شيء هناك رد فعل الأطراف الفاعلة الاجتماعية العراقية الرئيسية هو الذي سيقرر مصير التدخل.  ويثير انهيار البنية التحتية الاجتماعية غضبا تؤججه رغبة الجهود الأميركية للاحتفاظ بالسلطة كما يعبر عن ذلك تكاثر المظاهرات والدعوات إلى إنهاء الاحتلال وخاصة بعد أن أصبحت وفيات أسر بأكملها أمرا مألوفا عند نقاط التفتيش وأثناء عمليات الاعتقال. كانت المقاومة المسلحة في البداية خفيفة نسبيا ثم اشتدت وقد أصبح الجنود الأميركيون يدركون أنهم ينظر إليهم الآن باعتبارهم "محتلين" وليسوا “محررين". 

وبإلغاء الانتخابات المحلية، قامت السلطات الأمريكية على عجل بتجميع مجلس الحكومة. ويختار بعض العراقيين، ومعظمهم من الشيعة، الترقب ما ستفرزه الأحداث وآخرون يغتالون المتعاونين مع المحتل الأمريكي. كيف سيكون حجم المقاومة المسلحة؟ لا أحد يعرف، ولكن سيكون من الحماقة الاعتقاد بأنها سوف تقتصر على الموالين للرئيس السابق صدام حسين أو تنظيم القاعدة أو المقاتلين العرب الأجانب.  ومن ناحية أخرى، نعرف ما هي العوامل التي ستكون حاسمة: سواء تمت إعادة تشغيل البنيات الأساسية أم لا، وسواء حدثت تلبية الاحتياجات الاجتماعية الأساسية أم لا، وما إذا كانت السلطة في أيدي العراقيين أم لا، وما إذا كانت الجماعات العرقية والقبلية والإقليمية والدينية المختلفة تعامل بإنصاف أم لا. 

وبعد أن قدم الأكراد أنفسهم لواشنطن كحلفاء منذ عام 1991 حيث أصبحت لهم حكومتهم، فقد كتموا حتى المطالب التي يمكن أن تبعدهم قليلا عن الولايات المتحدة أما طائفة السنة، الذين فقدوا مركزهم المهيمن، فهم يكتفون باجترار استيائهم. أن العلمانيين من المسلمين والمسيحيين يظلون حذرين من احتمال الأسلمة. أما الشيعة (60٪ من مجموع السكان)، الذين قمعوا في ظل النظام البعثي، فهم الرابح الأكبر من نظام جديد ويمكن أن يؤيدوا التدخل. ولا يمكن للمشروع الأمريكي أن ينجح بدون تعاونهم.

ثيوقراطية جديدة أم ماذا؟

  وبالمثل، من غير المرجح أن تنجح المقاومة من دون الشيعة. وإذا شملتهم فإن الأميركيين لن يتمكنوا من قمعها دون تدمير البلاد، وفي الوقت نفسه، تخريب أي شرعية أخلاقية وسياسية. لكن الحكم الشيعي من شأنه أن يهدد وحدة البلاد، ويدفع الأكراد نحو المطالبة بالحكم الذاتي وينفر السنة والمسيحيين فضلا عن العراقيين العلمانيين. وبالتالي، فإن نجاح أو فشل المشروع الأمريكي سيكون على حساب التوازن الدقيق الذي سيقيمه الشيعة بين الدعم   وضبط النفس والعداء. 

ومن المأمول ان يعمل مجلس الحكومة العراقي المعين من طرف الولايات المتحدة والذي يتمتع بأغلبية شيعية، على إعادة الإعمار الوطني الموحد. لكن الطائفة الشيعية تفتقد للصبر. ولم يبد آيات الله في النجف، أقدس مدينة عند أهل الإسلام الشيعي، سوى ترحيبا   محدودا بالوجود الأمريكي.

 كان آية الله علي السيستاني، العضو الأكثر احتراما في مجلس رجال الدين الإسلامي في النجف، الحوزة العلمية، مؤيدا دائما لقيام سلطة شيعية: فقد أصدر فتوى يطالب فيها العراقيين، وليس السلطات الأمريكية، باختيار أعضاء لجنة مكلفة بصياغة دستور جديد قصد طرحه للتصويت.   إن المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق الذي كان يرأسه حتى اغتياله في 29 غشت 2003 آية الله باكر الحكيم، له جناحه العسكري الخاص (لواء بدر) وكان مقره في إيران خلال فترة حكم الرئيس صدام حسين؛ وهو عضو في مجلس الحكومة. إن كاريزما الإمام مقتدى الصدر، نجل رجل الدين المحترم الذي قتله البعثيون، يتردد صداها على نطاق واسع بين الشباب والسكان الفقراء. 

فهو يترأس مظاهرات ضخمة وقد تلقى رسائل الدعم من إيران، للتنديد بجبن مجلس الحكومة   وأمريكا وصدام حسين، والاستعمار، ويدعو إلى نظام ديني على النمط الإيراني. غير أنه تجنب الدعوة إلى المقاومة المسلحة، التي عارضتها الحوزة.

 كيف سيتم حسم النقاش بين مؤيدي الديمقراطية العلمانية ومؤيدي الثيوقراطية الدينية داخل الطائفة الشيعة، وكذلك بين الشيعة والجماعات العراقية الأخرى والسلطات الأمريكية؟ ومن خلال السعي إلى تأمين دعم الشيعة، تخاطر الولايات المتحدة بإثارة التيارات الأصولية الأخرى.  وهكذا، في الحي الفقير في مدينة بغداد صدام، التي أصبحت الآن مدينة الصدر، تشارك الميليشيات المرتبطة بمقتدى الصدر، الممولة ب "أكوام الدينار" من القوات الأمريكية، بطريقتها الخاصة في فرض النظام. فهي تطالب بإشعال النار في دور السينما، وضرب بائعي المشروبات الكحولية والرجال الذين يرفضون إرسال الحية وفرض ارتداء الحجاب على جميع النساء، بمن فيهن المسيحيات، مع معاقبة "المخالفات " واللواتي لا يرتدين النقاب من النساء بالإعدام (8). 

وتحيي هذه الصور الخوف من إعادة إنتاج إيران أو أفغانستان جديد. وإذا ما ساد نظام آيات الله في بغداد، فإن وحدة الدولة العراقية سوف تتعرض للخطر، والأصولية الشيعية العابرة للحدود الوطنية سوف تتمتع بتفويض مطلق، وسوف تعاني واشنطن من كارثة سياسية. وتكشف المسألة الشيعية، أكثر من أي مسألة أخرى، عن التناقض بين الهدف المعلن للولايات المتحدة المتمثل في السماح للعراق بالوصول إلى الديمقراطية والضرورة المطلقة، بالنسبة لهم، للسيطرة على العملية حتى النهاية. ولكن ماذا يمكن لواشنطن أن تنكر على الشيعة، الذين يكفي امتناعهم عن التصويت لزرع المتاعب؟

لا يمكن للبيت الأبيض أن يدع العراق ينجرف مثل أفغانستان. وهذه السابقة، شأنها شأن سابقة البلقان، تثبت ذلك: فالانتصار على جيش عسكري أسهل بكثير من بناء أمة، ناهيك عن تحويل ثقافة المنطقة برمتها. يستند المشروع الإمبراطوري المحافظ الجديد إلى نقد للثقافة السياسية العربية المعاصرة وعلى الخوف من تنامي تياراتها المتطرفة (9) والعلاج المتوخى يتجاوز بكثير مجرد الغزو. ولا يمكن التغاضي عن تعقيدات شعب ما وتعدديته واستقلاله الثقافي العنيد من خلال مخطط مستورد من مكان بعيد. 

إن التحول الديمقراطي الذي يحتاج إليه الشرق الأوسط بشدة يتطلب ذكاء سياسيا وخيالا أخلاقيا. وهو ينطوي على دعم القوى التي عملت بشجاعة في هذا الاتجاه: المعارضون والصحفيون الذين يخاطرون بحياتهم وحريتهم كل يوم وكذلك الإصلاحيون الإسلاميون الذين يدافعون عن توافق الإسلام مع الديمقراطية ضد المتطرفين والجمعيات النسائية والنقابات العمالية وممثلي المجتمع المدني، الذين يناضلون من أجل الحق في تنظيم أفكارهم والترويج لها. وهذا يفترض مسبقا أن نقتنع أن الحركات السياسية الإسلامية لا تتألف بالضرورة من جهاديين عنيفين، وأنه لا يوجد سبب يمنعهم من الاندماج في السياسة الوطنية، مثل الديمقراطيين المسيحيين في أوروبا.

إن أي قوة خارجية مستعدة للتدخل في المنطقة باسم الديمقراطية يجب أن تتحاور مع هذه القوى وتحترمها وتجد معها حلولا سياسية واجتماعية واقتصادية.  فهذه القوات وحدها هي التي ستفوز بمعركة الديمقراطية وستكون الحصن الأكثر فعالية ضد التطرف الجهادي. ولذلك فالأمر متروك لها وليس لنخبة صغيرة في واشنطن، لقيادة الكفاح من أجل الإصلاح في الشرق الأوسط. وبدلا من دعم حركات الإصلاح الأصلية هذه، تواصل واشنطن التحالف مع الحكومات الاستبدادية التي تخنق كل هذه التعبيرات المجتمعية، باسم "الحرب على الإرهاب"، تعزز الولايات المتحدة أجهزة الدولة الأكثر قمعا وتغض الطرف عن السجن التعسفي لكثير من “الإسلاميين". 

وإذا أراد الأمريكيون من الإصلاحيين العرب أن يأخذوهم على محمل الجد عندما يزعمون أنهم ملتزمون بالديمقراطية، فعليهم أن يتوقفوا عن تشجيع الاعتقالات الجماعية والتعذيب. وإذا كانوا يريدون من القوميين العرب المعتدلين أن يأخذوها على محمل الجد عندما يزعمون أنهم قلقون بشأن مستقبل الثقافة العربية أو التهديد الذي تشكله أسلحة الدمار الشامل، فعليهم أن يتوقفوا عن دعم سياسة إسرائيل العدوانية دون قيد أو شرط، وأن يسعوا جاهدين إلى تعزيز خطة سلام تأخذ في الاعتبار الغضب الفلسطيني إزاء الاحتلال والاستعمار، فضلا عن المخاوف الأمنية الإسرائيلية.

ونظرا لمصدر مشروع المحافظين الجدد الأصلي، فإن مثل هذا التعامل المتعسف يبدو غير محتمل. ومع ذلك، إذا كانت الاستراتيجية الإقليمية الأمريكية تعمل على فرض مظالم جديدة على الفلسطينيين، فإن العديد من العرب سينظرون إليها عن حق على أنها أداة تهدف تقوية التعنت الإسرائيلي. وإذا كانت الولايات المتحدة تريد من العرب أن يصدقوها حقا عندما تزعم أنها تؤيد تقرير المصير، فلا يمكنها أن تطلب من الديمقراطية العراقية أن ترتدي جلباب طغيان جديد. وإذا لم تتمكن من إظهار هذا الحد الأدنى من الاحترام للمنطقة التي تزعم أنها تريد إصلاحها، فإن التناقضات الداخلية لسياساتها سوف تصبح واضحة، خارج الدائرة الصغيرة لمراكز الفكر ووسائل الإعلام المساندة في واشنطن وكذلك لشعوب الشرق الأوسط.

 ماذا بعد الفشل الأمريكي؟

 ولا يمكن تحقيق الهدف الاستراتيجي لواشنطن الا إذا تحول العراق بسرعة كافية الى دولة ذات سيادة ومستقرة وموحدة وديمقراطية وغير ثيوقراطية. وهذا هو الشرط لضمان أمن الشرق الأوسط وبقية العالم، ولكن أيضا لكي يحقق المحافظون الجدد هدفهم في الحرب: التوفر على قاعدة تخدم المصالح الجيوسياسية الأمريكية ونشر الديمقراطية في العالم العربي. ولتحقيق ذلك، سيتعين على الولايات المتحدة أن تقبل خسارة الجنود والنفقات الضخمة، حتى في الوقت الذي يعيش فيه شعبها على إيقاع تخفيضات الميزانية العامة. وعلى الأرجح، فإن التفكك في نهاية المطاف للدولة العراقية، وانتشار الفقر والاضطرابات والمقاومة، وإطالة أمد الاحتلال الأجنبي، وصعود الأصولية أو بروز سلطة استبدادية، سيمثل لأمريكا فشلا سياسيا خطيرا. 

وبالنسبة للعالم العربي، سيكون من الخطر الجلوس وانتظار فشل الولايات المتحدة، التي يمكن أن تؤدي، مع إطالة أمد احتلالها للعراق، إلى "تغيير النظام" في أماكن أخرى. ولكونها أهدافا محتملة لهذه الاستراتيجية الأمريكية فإن الدول العربية وجميع البلدان النامية يجب أن تأخذ زمام المبادرة السياسية والأخلاقية. لم تعد المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة والجامعة العربية وحركة عدم الانحياز، تشتغل جيدا، وهي المصممة لفترة الحرب الباردة. إن سابقة الولايات المتحدة للحرب الوقائية تهدد بأن تصبح قاعدة عالمية لمعالجة النزاعات. 

ولتجنب ذلك، نحتاج إلى هياكل جديدة للتضامن تتجاوز المعايير التقليدية للعلاقات بين الدول ويجب على الدول المستقلة أن تلتزم باحترام قواعد القانون الدولي في صراعاتها، وبإدانة أي عمل عسكري وقائي، وبحرمانه من كل أشكال الدعم (منح القواعد الجوية وحقوق التحليق، وما إلى ذلك) وتعزيز الإصلاحات الديمقراطية، حتى لو تطلب ذلك "تغيير النظام". ويجب أن تكون هذه المبادرة، أكثر من مجرد معاهدة، بل منتدى لإعداد الإصلاح الديمقراطي، والإصلاح الإسلامي في العالم الإسلامي. 

ومن دون تأخير، يجب على الأمم المتحدة أن تتولى المسؤولية في العراق. 10 وتفهم الولايات المتحدة الحاجة إلى ولاية دولية. وهذه خطوة إلى الأمام، ولكن ستكون هناك حاجة إلى المزيد من المبادرات. 

ومن خلال "كسب" الحرب على العراق، وضعتنا واشنطن جميعا على المحك. وإذا لم تصبح بغداد، كما وعدت، قطبا مستقرا للجاذبية يحفز على إرساء الديمقراطية في الشرق الأوسط، فإن الولايات المتحدة ستجد نفسها ضعيفة وأكثر عرضة للخطر؛ إن آفاق الإصلاح في العالم العربي سوف تصبح أكثر إشكالية. وبالمثل، إذا لم يجد العراق والدول العربية الأخرى طريقها الخاص نحو الديمقراطية والشرعية الشعبية، فإن العواقب ستكون كارثية. إن فرص النجاح، كما حددتها أميركا لنفسها ولبقية العالم، تبدو ضعيفة. ومهما كانت نية الولايات المتحدة في غزو العراق، فهذه هي النتيجة بالنسبة لها ولنا.



(1) International Herald Tribune, 3 octobre 2002. Lire aussi Henry Kissinger, « Irak Poses Most Consequential Foreign-Policy Decision for Bush », Chicago, Tribune, 11 août 2002.

(2) Idem.

(3) Lire Philip S. Glubb, «Métamorphoses d’une politique impériale»، Le Monde diplomatique, mars 2003.

(4) Rapport du PNAC, 2000.

(5) Lawrence Eagleburger: Bush Should Be Impeached if he Invades Syria or Iran» , 14 avril 2003.

(6) Seymour M. Hersh, «The Syrian Bet: Did the Bush Administration Burn a Useful Source on Al Qaeda ?»، The New Yorker, 28 juillet 2003.

(7) Jeffrey Bell, cité par Joshua Micah Marshall dans «Practice to Deceive»، The Washington Monthly Online, avril 2003.

(8) Susan Sachs, «Shiite Leaders Compete to Govern an Iraqi Slum»، The New York Times, 25 mai 2003.

(9) Lire Edward W. Said, «L’humanisme, dernier rempart contre la barbarie »,Le Monde diplomatique, septembre 2003.

الأزمة والإصلاح في العالم العربي من أجل ديمقراطية أصلية

من أجل ديمقراطية أصلية

أكتوبر 2005

في الوقت الذي يصوت فيه الشعب العراقي في 15 أكتوبر على مشروع دستور جديد موضع خلاف كبير، يستمر النقاش في العالم العربي حول كيفية إخراج المنطقة من الأزمة والشقاء والاستبداد. وفي حين أن هناك توافقا واسعا في الآراء لمعارضة الإصلاحات المفروضة من الخارج فإن المزيد من الأصوات تدعو إلى إنهاء الوضع الراهن والتقدم على سبيل الديمقراطية.

 لقد أدى غزو العراق واحتلاله إلى بروز اتجاهات جيوسياسية قوية لا يمكن التنبؤ بها في الشرق الأوسط وخارجه. ومن بين هذه التوجهات نجد ديناميكية الديمقراطية والإصلاح في العالم العربي، والتي تريد الإدارة الأمريكية احتكارها. ويستند هذا الادعاء المتأخر إلى الانتخابات العراقية والأحداث الأخيرة في لبنان. والواقع يبدو أكثر تعقيدا: فالسياسة الأميركية، المتناقضة في آثارها، هي واحدة من ثلاثة سبل محتملة للإصلاح، إلى جانب تلك التي يمكن وصفها بأنها "إسلامية" و"مواطنة أصيلة تقدمية".

إن الأسس النظرية للمشروع الأمريكي معروفة. فالحرب على العراق تنبع من المجهود الفكري والسياسي الطويل الذي تبذله مجموعة صغيرة من المحافظين الجدد، بدءا من نورمان بودهورتز، وريتشارد بيرل، وديفيد فروم، وبرنارد لويس، وفؤاد عجمي بالإضافة إلى السياسي الإسرائيلي المفضل لدى الرئيس جورج دبليو بوش، المنشق السوفييتي السابق والسياسي الإسرائيلي اليميني ناثان شارانسكي. ويشترك جميعهم في نفس الرؤية لعالم عربي يُغرق في انحطاط مستمر، تولده العيوب الثقافية والنفسية والدينية للمجتمعات العربية (أو الإسلامية). وهذا "التوارث" من شأنه أن يفسر تصاعد العنف الإرهابي المتزايد الضراوة، ومن شأنه أن يعيق عملية التحول الديمقراطي التي ينظر إليها على أنها العلاج الوحيد لكل هذه المساوئ.  وفي مواجهة هذا الإرهاب، الذي يستطيع في أي وقت اللجوء إلى أسلحة الدمار الشامل الكيميائية والبكتريولوجية وحتى النووية لا تستطيع أميركا حسب “المحافظين الجدد" أن تنتظر من هذه الدول أن تصلح نفسها. يجب عليها أن تعمل على تغيير مسار التاريخ في العالم العربي الإسلامي ومعالجة عيوبه وإجباره على التحول الديمقراطي. والولايات المتحدة هي وحدها القوة التي تستطيع القيام بهذه المهمة، باستخدام القوة إذا اقتضى الحال. 

قد تكون هذه النظرية الويلسونية اليمينية متماسكة فكريا وربما مغرية أيضا (1). إن الاحتجاج المجرد ب "الديمقراطية" يشكل المبرر النهائي لأفعال أميركا، مثل "الاشتراكية" التي كانت ذات يوم هي المحرك بالنسبة للاتحاد السوفييتي. إن أهمية حرب العراق لا تكمن فقط في الفوائد التي من المفترض أن تجلبها إلى ذلك البلد، ولكن أيضا في الخطوة التي ستمثلها في إنشاء إطار جيوسياسي جديد ونظام شامل للأمن والإصلاح، تتحكم فيه واشنطن عن بُعد ويفترض أنه سيكون في صالح الجميع، بما في ذلك العالم العربي الذي ظل ولا يزال يعاني. 

  باختصار، تمثل هذه الحرب، في رؤية "المحافظين الجدد"، الانتقال من الأفكار المجردة - مثل "الشر" و"الديمقراطية" - إلى مشروع ملموس للغزو والاحتلال والتحول. ولكنها تكشف أيضا عن العواقب. لقد وعد منظرو واشنطن بالانتقال السريع إلى دولة عراقية مستقلة وموحدة وعلمانية وهو نموذج الديمقراطية الصالح في الشرق الأوسط. وبدلا من ذلك، أدى التدخل إلى مأساة أودت بحياة آلاف الجنود وعشرات الآلاف من المدنيين، ودمرت مدنا بأكملها، وأعادت فتح غرف التعذيب، دون أن تنجح في ضمان سلامة المواطنين أو إمداداتهم من المياه أو الكهرباء أو الغاز: أنه اليوم مجتمع في حالة خراب، على حافة الحرب الأهلية التي أصبحت، وفقا لأجهزة الاستخبارات، مصنعا ضخما لإنتاج الإرهاب.

 

 مثل حرب الفيتنام في سنة 1967

 نحن أمام جريمة لا يمكن أن يبررها أي سيناريو للإصلاح الإقليمي، وهذا تشخيص أكثر المراقبين دقة وبصيرة.  "لقد نجحنا في تنظيم الانتخابات"، يرد المحافظون الجدد الذين يشيد مُنَظِّرهم ب "نسبة المشاركة الشعبية الكثيفة " في انتخابات يناير 2005، والتي "أعادت السلطة إلى 80٪ من سكان العراق - الأكراد والشيعة".   وفقا لهذا المنظر ستكون هذه الانتخابات نقطة انطلاق الأحداث في لبنان ومصر والخليج. وعلى حد تعبير الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط، فقد “بدأت الثورة" اللبنانية في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق، وهذه الانتخابات ترمز إلى "بداية عهد جديد في العالم العربي ". ويعتبر الصحفي تشارلز كراوتهامر Charles Krauthammer أن هذه الانتخابات تمثل "نقطة تحول تاريخية"، وتثبت أن "أميركا ملتزمة حقا بالديمقراطية" وهي وحدها "تبرر" ليس فقط غزو العراق، ولكن أيضا "عقيدة بوش بأكملها، المرادفة للسياسة الخارجية لتيار المحافظين الجدد" (2).

ويبعث هذا الحماس المتزايد على الريبة: لم تكن الولايات المتحدة في الأصل ترغب في هذه الانتخابات، التي فرضها الزعيم الشيعي آية الله العظمى علي السيستاني. ووعدت قبلها جميع الأحزاب الفائزة بانسحاب أمريكي. وبلغت نسبة "المشاركة" ذروتها وهي 58٪ من الناخبين المسجلين، ولكنها لم تتجاوز ... 2٪ في المناطق ذات الغالبية السنية.  وقال رئيس تحرير صحيفة "ديلي ستار " الصادرة في بيروت "لم أسمع أبدا الفكرة القائلة إن اللبنانيين استلهموا من العراق أي شيء إلا من تصريح وليد جنبلاط". ولكن تسلسل الأحداث أصاب بالإحباط كل المتحمسين.  وكما قال أحد كبار المسؤولين الأمريكيين: "ما أردنا تحقيقه أصلا لم يكن واقعيا أبدا. (...) ونحن نقترب من التخلص من هذه "اللاواقعية" التي سادت في البداية (3). في المرة الأخيرة التي قال فيها الأميركيون إنهم "فوجئوا وتأثروا" ب "أهمية المشاركة" في الانتخابات "على الرغم من الحملة الإرهابية لزعزعة الاستقرار (4)"، وصلت نسبة المشاركة إلى 83٪: كان ذلك في فيتنام في عام 1967...

ويؤكد صعود الأحزاب الشيعية الطابع الوهمي للاتفاق الذي أبرمته الولايات المتحدة مع هيئة رجال الدين الشيعة المحافظين: فمن الواضح أن صلات هؤلاء بإيران تعارض الذرائع الديمقراطية للمشروع الأمريكي.  أثناء صياغة الدستور الشاقة، مارست واشنطن ضغوطا لتجنب أي انهيار في المفاوضات، ولكن أيضا لتجنب أي صيغة محرجة حول القضايا المثيرة للجدل المتعلقة بالفيدرالية ودور الإسلام.   وهاتان النقطتان تلتقيان: إن الأصولية المستوحاة من إيران قد اتخذت لها جذورا قوية محليا كما في مدينة البصرة، حيث شجع البريطانيون هدوءا نسبيا عبر السماح ببناء نظام اجتماعي أصولي بحت لدرجة أن بعض الشيعة يقترحون إنشاء منطقة حكم ذاتي يحكمها تأويلهم الخاص للشريعة الإسلامية، وهو ما سيواجه الأميركيون صعوبة في منعه. يا لها من مفارقة! "نحن نخطط لإقامة ديمقراطية"، يقول أحد المسؤولين الأمريكيين، "لكننا ندرك تدريجيا أننا سنحصل في نهاية المطاف على شكل من أشكال الجمهورية الإسلامية" (5).

لطالما تميز تاريخ الشرق الأوسط بالتوتر بين الهيمنة الغربية والمطالبة العربية بالاستقلال، التي تركز على النفط والحرب الباردة وإنشاء إسرائيل. في الفترة الأخيرة، نجح تيار الإسلام السياسي في تعويض القومية العربية والاشتراكية على رأس شعارات المقاومة أمام الضغوط الغربية. ومع ذلك، وعلى الرغم من العداوات الواضحة، تعايشت واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون دائما، بطريقة أو بأخرى، مع الحركات الإسلامية.

 كما كانت المملكة العربية السعودية، وهي الدولة الإسلامية الأكثر محافظة في العالم العربي، هي الأكثر قربا من الولايات المتحدة لفترة طويلة. وقد تسبب دعم الأخيرة للشاه (من وجهة نظر طهران) ثم أزمة الرهائن في الفترة 1979-1980 (من وجهة نظر واشنطن) في توتر العلاقات الإيرانية الأمريكية. وفي الجزائر، وافق الغرب على إلغاء الانتخابات الديمقراطية من أجل منع وصول الأصوليين للحكم. بل على العكس من ذلك، فقد تسامح في تركيا مع صعود   حزب ذي تقاليد إسلامية إلى السلطة، وهو بالتأكيد حزب أكثر اعتدالا، ولم يشارك في غزو العراق. صحيح أن احتمال الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي يلقي بثقله على موقف جميع الأطراف الفاعلة في الحياة السياسية في أنقرة.  وكما يشير الباحث محمود محمداني (6)، فإن ما يوجه سياسة واشنطن ليس هو الرفض المبدئي للأصولية، أو الدعم الدائم للديمقراطية، بل البحث عن أفضل السبل لضمان هيمنتها.

لقد لعبت الإدارة الحالية مؤخرا ورقة جديدة: فهي تعلن استعدادها لتغيير الوضع الراهن باسم الديمقراطية. وهكذا، أعلنت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس مؤخرا عن التخلي الجذري عن ستين عاما من الدبلوماسية التي "تميل إلى الاستقرار على حساب الديمقراطية (...) دون الوصول إلى أي منهما (7). ما قيمة هذا الالتزام بالمثل الأعلى للديمقراطية في حد ذاتها" (8)؟ هل ستؤيد واشنطن انتصارا ديمقراطيا لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، أو أنصار أسامة بن لادن في المملكة العربية السعودية، أو حزب الله في لبنان، أو حماس في فلسطين، أو الأصولية الشيعية في العراق؟ 

 والصعوبة واضحة لدرجة أن بعض المدافعين عن الرئيس بوش "ييأسون" من "التحول الديمقراطي" بعد "الحرب على الإسلام المتشدد" (9). في الواقع، وبالنظر إلى التناقضات الناجمة عن عملهم، والاشتباكات بين مصالحهم   والوقائع على الأرض، كيف يمكن أن نفسر كون المسؤولين الأميركيين يتشبثون بهذه الاستراتيجية العكسية المتمثلة في "الديمقراطية لذاتها "؟ هل يعتقدون أنهم قادرون بسهولة على التخلص من الإسلاميين المتطرفين بمجرد وصول هؤلاء إلى السلطة؟ هل هذا هو العرض العقلاني لسياسة ذات أهداف مكتومة أم أنهم يتجاهلونها؟ وإدراكا من بعض المراقبين لتأثير حزب الليكود على المحافظين الجدد، يشيرون إلى أن الأخير يسعى في الواقع نحو زعزعة استقرار الدول العربية وإضعافها، ولو عبر انتصار التيار الأصولي. 

إن إدارة بوش تكاد تكون لغزا محيرا، حيث إن النوايا المعلنة لا تتفق مع المصالح الأميركية. عندما تولى الزعماء الدينيون الأصوليون الشيعة السلطة في إيران، تراجعت الولايات المتحدة عن خطابها "المتعلق بحقوق الإنسان"". بعد أن جلبوا أنفسهم قادة أصوليين شيعة إلى السلطة في العراق، هل سيخففون من موقفهم "المناهض للإسلاميين"؟ ماذا لو وصلت حركات مثل حماس إلى السلطة في بلدان أخرى، في الغد، هل ستعود واشنطن إلى اتفاقيات الاستقرار "المناهضة للأصولية" مع النخب الاستبدادية، كما كان الحال قبل 11 سبتمبر؟

 

الدين والثقافة والسؤال الطبقي

 إن الخلط بين المواقف الغربية من تيار الإسلام السياسي والديمقراطية لا يعفينا نحن العرب والمسلمين من توضيح موقفنا. توجد لدينا أشكال عديدة من "الأصولية" ولكن العلاقة البسيطة والطاهرة التي يدعيها كل منها بالدين الإسلامي معقدة في الواقع.  يرث معظمهم تاريخا سياسيا "هادئا" ملائما لفكرة الإصلاح باسم المبادئ الإسلامية. فالبعض منهم يتشدد سياسيا: فهم يساوون بين الفساد والاستبداد في الدول العربية وبين أشكال العلمانية وحتى الردة، ويدعون إلى الإصلاح من خلال إعادة أسلمة الدولة - إما بالسيطرة عليه أو بإثارة موجة عارمة من الاحتجاجات في هذا الاتجاه.   وقد أنتج أكثر الساخطين نوعا جديدا من الإسلام السياسي: فهؤلاء الجهاديون يعتبرون المجتمعات العربية الحديثة فاسدة بسبب استيعابها للقيم الغربية المنحرفة، وبالتالي يزعمون أنهم في حالة حرب معها لإعادة بناء الأمة وتطهيرها. وهم يتفننون ببراعة في استغلال التوترات الموجودة لدى السكان المسلمين في أوروبا، وهي الفئة التي أصبحت الناقل الرئيسي لانتشار هذه الأيديولوجية. 

ولا يمكن للمرء أن يفهم نجاح الأصوليين دون قياس مدى تشابك الدين والقضايا الطبقية ومشاكل الثقافة والسياسة.   في العديد من البلدان الإسلامية، يحاصر الفقر الجماهير الشعبية، التي يزعجها زعزعة التقاليد، وتغضبها الوعود الفارغة التي تحملها بالعولمة، وغالبا ما تكون يائسة ولكنها غير قادرة على مغادرة بلادها بينما تسافر النخب الغربية حول العالم. وهذا، في غياب بديل علماني ومسنود شعبيا، يوفر أرضية حساسة لشعارات الأصولية. ونتيجة لذلك، فإن أي إمكانية حقيقية للتحول الديمقراطي غالبا ما تكون مرادفة للأسلمة. 

ربما نكون قد أغفلنا نقاط قوتنا في مواجهة صعود هذه الأيديولوجيات المتدثرة بالخطاب القرآني. ومع ذلك، لدينا الوسائل للتعامل معها بفعالية، مع احترام تقاليدنا وثقافتنا.  وفي بلدي، نفذ الملك محمد السادس بشجاعة مراجعة لمدونة الأسرة، على الرغم من المعارضة القوية من طرف بعض الجماعات الإسلامية، التي كانت تخيف الأحزاب العلمانية. باختصار، يمكننا أن نرقى إلى مستوى التحدي الأصولي في بلداننا.

 يجب أن أكون واضحا: إنني أؤيد سياسة معتدلة وتقدمية ومنفتحة على المواطنين، متسامحة مع جميع الرؤى المختلفة لدور الدين في الحياة السياسية. وإذا لم يكن الفصل بين المجالات السياسية والدينية ضمانا ضد الفساد أو السياسات الرجعية، فإنني أعارض أي شكل من أشكال النظام الثيوقراطي الذي لا يتفق مع ثقافة ديمقراطية سليمة. ومع احترام الإسلام، يجب على الدولة أن تبقى مستقلة عن السلطات الدينية، ولكن أيضا تجنب "معاقبة" الأكثر تدينا من خلال الحد من حصولهم على التعليم أو عرقلة مشاركتهم في الحياة العامة. 

 ويجب حل هذه المسائل في إطار دستوري ديمقراطي تقبله جميع الأطراف. ويتطلب ذلك ضمانات مؤسسية جادة؛ ولكن في سياق من العدالة السياسية الحقيقية والفصل بين السلطات، يمكن للحركات الإسلامية أن تكون طرفا من الحياة السياسية في بلادها. ولا يكفي أن نخشى من الإسلام السياسي كقوة محتملة لزعزعة الاستقرار. ويجب أيضا أن نقتنع أنه بالإمكان تليين مواقفه عن طريق إدماجه في الحياة الديمقراطية.

كيف ستتعامل واشنطن مع إيران؟ 

 إن النقاش حول الإسلام السياسي والديمقراطية الذي ينهك مجتمعاتنا، يصبح مشتعلا عندما يختلط ب "المعايير المزدوجة" في التعامل مع فلسطين كما هو الحال مع العراق، و"الحرب على الإرهاب" المؤرقة، والأحكام المسبقة المنتشرة في كل مكان عندما يتعلق الأمر بالإسلام. ومن بين العوامل التي تدفع الأصوليين للتطرف هو تهاون العرب، ولكن أيضا غطرسة العالم الغربي.

لذلك، يحتاج العالم العربي إلى مناقشة المسار الذي يجب أن يسلكه نحو الإصلاح وإرساء الديمقراطية، وكذلك نحو إعادة تشكيل تدريجي للعلاقة بين الإيمان وممارسة السياسة.   نحن نتفهم الاهتمام الذي يحظى به أصدقاؤنا من جميع أنحاء العالم في هذه المناقشات، فضلا عن رغبتهم في تشجيع البدائل الأكثر أمنا وديمقراطية. ولكننا لا نستطيع أن نقبل بأن تمنح أي دولة لنفسها الحق في حل مشاكلنا باستخدام القوة العسكرية. ولن تترسخ الديمقراطية في مجتمعاتنا إلا بتجذرها ونموها من الداخل. 

وفي إيران، ساهم التهديد الأمريكي في تحقيق فوز مفاجئ ولكن ديمقراطي لمرشح محافظ. وفي أماكن أخرى، نجحت أحزاب مثل «حماس» و«حزب الله» في وضع الإسلام في طليعة النضالات الوطنية، كما أنها تفوز في الانتخابات الديمقراطية. لقد أصبح العراق أرضا خصبة لكل أنماط التطرف. باختصار، إذا لم تفتح الأصولية، وحدها أو بمساهمة الأفكار الديمقراطية أو القومية، طريقا سهلا نحو الإصلاح، فإنها تصبح، بمجرد أن ينظر إليها على أنها الشريك الوحيد للديمقراطية أو القومية، منعطفا حتميا على الطريق الطويل جدا نحو مجتمع تقدمي.

بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يكون الحوار في اتجاهين. ومن حقنا أيضا أن ننظر إلى بعض المناقشات الرئيسية بين أصدقائنا وحلفائنا، من أجل تشجيع الخيارات التي تبدو لنا الأكثر فائدة. فنحن أولا وقبل كل شيء مهتمون أيضا بالتوفر على الحلول الملائمة. وإذا كان النقاد الأمريكيون للعالم العربي، حتى المحافظين الجدد، قد حددوا بشكل حاسم التوجهات الخطيرة في مجتمعاتنا، يمكننا أن نعيد لهم انتقاداتهم بدورنا.

 ما يبرز أمام أنظارنا هو تشكيل سياسي جديد وقوي، يمزج بين الأصولية المسيحية اليمينية والصهيونية الأميركية المتشددة والنزعة العسكرية التي لا تعرف الحدود.  إن السياسة الداخلية الأميركية، الملتفة في أسطورة الراية والأسرة والكنيسة، تعبر عن نفسها في شكل سياسة خارجية عدوانية وأحادية الجانب ومتغطرسة. وتقود هذه "الكتلة" التدخل في العراق وخارجه، وتبرر العنف وتبث رواياتها الإيثارية. ومن هنا جاءت صعوبة تغيير هذه السياسة، التي لا تفصل بين المستويين الداخلي والخارجي.

ويفسر هذا الأخير أيضا من خلال عودة الخطاب الديني المتزايدة إلى السياسة والدولة في أمريكا. والدليل على ذلك هو الصراعات الشرسة حول مصير تيري شيافو Terry Schiavo، أو على الاحتجاج بالوصايا العشر في المحاكم أو على مدى ما ينبغي أن تكون عليه الحكومة - وفقا لقاضي المحكمة العليا – ممثلة ل “سلطة الرب" (10).  رأى الرئيس نفسه أنه من المناسب التدخل في مناقشة حول نظرية التطور، وضد المبادئ الأساسية للعلم. ويعترف عضو جمهوري في الكونغرس بأن "الحزب الجمهوري الذي تزعمه ذات يوم الرئيس أبراهام لينكولن أصبح حزبا ثيوقراطيا".

 ولا شك أن هذا الامتزاج يفسر السهولة التي يتم بها التسامح مع التعذيب ومنح الزعيم الرئيسي سلطات غير محدودة، مما يسمح له بسجن الأشخاص بدون محاكمة ولا حتى توجيه تهمة إلى أجل غير مسمى. ولكنه يفسر أيضا عجز مثل هذه الدولة القوية عن إبصار نفسها ومكانها في العالم بطريقة نسبية، والاعتراف بإخفاقاتها وأخطائها، والإدراك أنه ليس من المعقول أن تقلدها كل بلدان العالم. وميلها إلى الخلط بين الجهل للبراءة، والشعور بالغطرسة لأنها قوة عظمى، والتصرف بنوع من السذاجة. 

 وقد حان الوقت لكي تكون هذه المسائل موضوع حوار وطني في الولايات المتحدة. أيها الأصدقاء المحترمون، سنشجع القرارات التي نعتقد أنها متوافقة مع التقاليد الديمقراطية التي كانت دائما وراء إعجابنا بهذا البلد.  ولهذا السبب، عندما يتعلق الأمر بالإصلاح، لا نريد لا طريق المحافظين الجدد ولا مسار الأصوليين. هل سنعثر على سبيل ثالث في المستقبل القريب؟ وعلى أية حال، من الصعب تصور ذلك، نظرا للتداعيات العميقة التي لا يمكن التنبؤ بها لحرب العراق.

 كيف ستتصرف الولايات المتحدة مع إيران؟ يرى المراقبون المنصفون أن المستنقع العراقي يجعل فرضية القيام بمزيد من العمل العسكري أمرا لا يمكن تصوره، لا سيما وأن القيادة الشيعية العراقية ترفض أي تلميح إلى العدوان. كما أن الاعتذار الذي قدمه قادة بغداد الجدد لطهران عن الحرب الإيرانية العراقية (1980-1988) يرسي الأساس لتحالف عسكري جديد: ألم يقسموا على أنهم لن يسمحوا أبدا بشن هجوم على جارتهم انطلاقا من أراضيهم؟ 

 بيد أن هذه الاعتبارات لم تخرس الخطاب العدواني الأمريكي ضد طهران، مرة أخرى تحت مبرر أسلحة الدمار الشامل. بل إن نائب الرئيس ريتشارد تشيني يهدد بمهاجمة إيران بالأسلحة النووية في حالة وقوع هجوم إرهابي آخر في الولايات المتحدة حتى ولو لم يكن لطهران أي علاقة به. أما بالنسبة إلى المحافظين الجدد، فإذا كان علاج ملف حماس أو حزب الله يتحمل الانتظار، فإن إيران، من ناحية أخرى، دولة قوية، عززها تدمير أعدائها الرئيسيين (طالبان والنظام العراقي) وهي تمارس الآن نفوذا كبيرا على العراق، وتلهم منطقة نفوذ إقليمية شيعية عابرة للحدود الوطنية. فضلا عن ذلك فهي قوة عسكرية هائلة قادرة على إنتاج الأسلحة النووية حتى ولو لم يكن هناك دليل على مثل هذا الغرض. 

وهذا قد يدفع واشنطن إلى التفكير في تدمير إيران باعتباره السبيل الوحيد لمنع ذلك البلد من أن يصبح عقبة كبيرة أمام الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية على المنطقة. كما أنه سيكون بالنسبة إلى المحافظين الجدد في السلطة امتدادا منطقيا لاستراتيجيتها المتمثلة في "التدمير الخلاق" (12). غير أن مثل هذا الهجوم، حتى لو نفذته القوات الإسرائيلية بموافقة الولايات المتحدة، من شأنه أن يغرق الشرق الأوسط في دوامة كارثية من العنف وعدم الاستقرار. 

 كما أن الشرق الأوسط يواصل تطوره. وكإشارة إلى ضعف سوريا، قد يسمح لها انسحابها من لبنان أيضا باستعادة قواتها، دون أن ندرك ما إذا كان ذلك سيؤدي إلى الإصلاح الديمقراطي، أو قمع أي تمرد محتمل (سني أو كردي)، أو مقاومة التهديدات الأمريكية. هل سيغرق لبنان بعد تحريره من الاحتلال السوري في حرب أهلية أم أنه سيتصالح ديمقراطيا، دون تدخل أجنبي، مع دياناته السبعة عشر، من الموارنة إلى الشيعة؟ هل شهدنا في مصر بداية أو نهاية الانفتاح الديمقراطي؟ وفي المملكة العربية السعودية، أسفرت الانتخابات البلدية إلى انتصار الوهابيين الصارمين. وفي أماكن أخرى، سيكون من الصعب ترويض المجتمعات المدنية العربية الجريئة.  وفي هذا السياق المضطرب، اتخذت بلدان معتدلة مثل المغرب والبحرين والأردن خطوات مترددة نحو الإصلاح. 

ولكن الإصلاح الحقيقي - الأصلي والتقدمي والقادرة على تلبية احتياجات وتطلعات شعوبنا - لابد وأن يتجاوز هذا التحول الديمقراطي الخجول، الناجم عن تنظيم انتخابات مقيدة وإطار دستوري محدود. ويتطلب الإصلاح التخلص مما يصفه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في تقريره العربي للتنمية البشرية (2004) بأنه "الثقب الأسود للدولة العربية"(13).  ووفقا للوثيقة، فإن تركيز السلطة في أيدي السلطة التنفيذية - سواء كانت ملكية أو عسكرية أو ديكتاتورية أو ناتجة عن الانتخابات الرئاسية التي يخوض فيها مرشح واحد الانتخابات - خلق "نوعا من "الثقب الأسود" في قلب الحياة السياسية" و"قلص بيئته الاجتماعية إلى جسم ثابت حيث لا يتحرك أي كائن". ومن أجل الخروج من الأزمة، نحتاج إلى إصلاحات سياسية وقانونية قوية وفورية تحترم الحريات الأساسية للرأي والتعبير وتكوين الجمعيات، وتضمن استقلال القضاء وتلغي "حالة الطوارئ" التي أصبحت عادة دائمة حتى في غياب مخاطر تبررها".

هذا التقرير مفيد جدا لأنه يتناول التحليلات التاريخية والنظرية لمفهوم الحرية في العالم العربي والإسلامي ثم يمر إلى انتقاد "أي شكل من أشكال الاعتداء على الكرامة الإنسانية، مثل الجوع والمرض والجهل والفقر والخوف". وفي احترامه للثقافات المحلية، يندد بوجود “بيئة القمع السائدة" ويدعو إلى إعادة تشكيل "الهياكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية" مما يسمح للأطراف الفاعلة الاجتماعية والسياسية التقدمية باستخدام "أزمة الأنظمة الاستبدادية والشمولية لصالحها".

كما أنه يعزو مسؤولية خاصة إلى "النخبة الفكرية والسياسية في المنطقة"، التي "فشلت حتى الآن في لعب دورها الاجتماعي كضمير وقائد للأمة".  وسوف ينظر البعض إلى هذا الحكم القاسي، الذي يهمل شجاعة الصحفيين والمعارضين الذين يقاومون القمع الوحشي. ومع ذلك، يجب على ممثلي المجتمع المدني "إيجاد موطئ قدم لأنفسهم وللعالم العربي، دون الخضوع لنفوذ القوى العظمى أو الانغماس في اليأس والعنف، الذي يمكن أن يسيطر على أذهان العديد من الشباب المحرومين من جميع أشكال المجال السلمي والمناورة الفعّالة ". 

إن حجم المهمة ضخم جدا. بل قد يبدو من المستحيل، بل وغير المجدي، فالبحث عن مخرج من الكارثة التي أعدها الخصمان المتواطئان مع "التدمير الخلاق" وهما اللذان يرى كل منهما في الآخر تجسيدا ل "الشر المطلق " الذي سوف تقضي عليه الحرب الشاملة. ومع ذلك هذه هي مهمتنا. في بعض الأحيان، في حالة تهيمن عليها الكثير من العوامل السلبية، فإن واجب التقدميين هو ببساطة الحفاظ على إمكانية المنعطف الإيجابي. والسياسة ستعود مدينة بعد مدينة وبلادا بعد بلاد ومنطقة بعد منطقة، يجب أن تتكاثر أعداد الأطراف الفاعلة التي ترفض الكارثة وتفضل أن تلعب دور بناء الحياة الحرة والكريمة.



(1) Named after President Thomas Woodrow Wilson, who, in the aftermath of the First World War, with his “fourteen points,” strongly advocated the right to self–determination of peoples – partly by replacing British power with American stewardship over the Middle East.

(2) Charles Krauthammer, “The neoconservative convergence,” Commentary, July–August 2005.

(3) Robin Wright, Ellen Knickmeyer, “US lowers sights on what can be achieved in Iraq,” The Washington Post, 14 August 2005.

(4) “US encouraged by Vietnam vote,” New York Times, 4 September 1967.

(5) Robin Wright, Ellen Knickmeyer, art. cit.

(6) Mahmood Mamdani, Good Muslim, Bad Muslim: America, the Cold War and the Roots of Terror (New York: Three Leaves Publishing, 2005).

(7) “Secretary Rice urges democratic change in the Middle East,” Press Release of the Department of State, Washington DC, 20 June 2005.

(8) Charles Krauthammer, art. cit.

(9) Andrew C. McCarthy, quoted in Justin Raimondo, “Recanting the war,” Antiwar.com, 24 August 2005.

(10) Antonin Scalia, “God’s justice and ours,” First Things, no. 123 (May 2002).

(11) As stated by Republican Congressman Christopher Shays, in interview with Alex Chadwick, National Public Radio, 24 March 2005.

(12) Michael Ledeen, “Creative destruction: how to wage a revolutionary war,” National Review Online, 20 September 2001. See also Walid Charara, “Constructive instability,” Le Monde Diplomatique, July 2005.

(13) UNDP, Arab Human Development Report (Beirut: UNDP, 2004). The following quotations are also taken from it.

جميع العناصر لحدوث كارثة استراتيجية أمريكية من البحر الأبيض المتوسط إلى شبه القارة الهندية

فبراير 2007

لم يكن الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش يبدو منزعجا وهو يعلن تكثيف التدخل العسكري في العراق ويفكر في مهاجمة إيران. ولم يغير أي شيء في منهجه رغم نكسات جيشه ورغم استياء الناخبين الأميركيين ومعارضة جزء كبير من العواصم الأجنبية، باسم التهديد الشيعي، يحاول البيت الأبيض الالتفاف حوله القادة العرب المتواطئين رغم أنهم غير واثقين تماما بتصرف القيادة الأمريكية.

 بعد الثورة الإيرانية في عام 1979، تم إقناع بعض السياسيين الأمريكيين بفكرة أن القوى الإسلامية يمكن استخدامها ضد الاتحاد السوفيتي. ووفقا لهذه النظرية، التي أسهب فيها السيد زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس جيمس كارتر، يوجد “قوس أزمة" يمتد من المغرب إلى باكستان، وفي هذا المجال يمكن لأمريكا أن تحشد "قوس الإسلام" لمحاصرة النفوذ السوفياتي (1).  ألم تساهم هذه القوى الإسلامية المحافظة بالفعل في الستينيات والسبعينات من القرن الماضي في تـهميش وهزيمة الأحزاب اليسارية والقومية العلمانية في المنطقة، وأولا في إيران في عام 1953؟ ألا يمكن للأصولية الإيرانية أن تكون الحافز لتمرد مسلم في "قلب" الاتحاد السوفياتي؟  وفي وقت لاحق، تأرجحت الولايات المتحدة بين العديد من الخيارات السياسية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. لم يكن لديهم سوى هدف مزدوج، الفوز في الحرب الباردة ودعم إسرائيل، ولكن الوسائل المستخدمة والدول المدعومة مختلفة، وأحيانا بشكل متناقض. لقد ساعدت الولايات المتحدة العراق رسميا في الحرب ضد إيران (1980-1988)، تماما كما غضت الطرف عن إيصال الأسلحة الإسرائيلية إلى إيران.  في ذلك الوقت، كان المحافظون المقربون من تل أبيب هم الذين يعملون بنشاط من أجل تحقيق تحول لصالح طهران، حيث لا تزال إسرائيل تعتبر القومية العربية العلمانية عدوها الرئيسي وتدعم جماعة الإخوان المسلمين في الأراضي الفلسطينية المحتلة كثقل موازن لمنظمة التحرير الفلسطينية. وكان أوج هذه الاستراتيجية هو التحالف بين واشنطن والمملكة العربية السعودية وباكستان، الذي سمح بشكل خاص، في الثمانينيات، بإنشاء جيش جهادي دولي لمحاربة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان (2).

 في عام 1990، ومع انهيار الاتحاد السوفياتي، أسست الولايات المتحدة تحالفا دوليا لطرد الجيش العراقي من الكويت. استجابت الدول العربية، من سوريا إلى المغرب، بشكل إيجابي لنداء يستند إلى القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة. وقد سمعوا تطمينات بأن الأمر لا يتعلق فقط بإنقاذ نظام ملكي نفطي صديق، بل بإقامة نظام جديد يستند على العدالة الدولية. وبمجرد استعادة سيادة الكويت، ينبغي تنفيذ جميع قرارات الأمم المتحدة، بما في ذلك القرارات التي تتطلب انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية المحتلة.

 

 عملاء واشنطن العرب

  وعلى الرغم من الضغوط قررت الادارة الامريكية عدم الاطاحة بنظام الرئيس صدام حسين. "للإطاحة بصدام (...) كان علينا أن نستعمل قوات عسكرية وبمجرد أن نتخلص من صدام حسين وحكومته، كان ينبغي لنا أن نشكل حكومة جديدة. ولكن أي نوع من الحكومات؟ حكومة سنية أم حكومة شيعية أو حكومة كردية أم نظام بعثيا؟ أو ربما أردنا إشراك بعض الأصوليين الإسلاميين؟   كم من الوقت سيجب أن نمكث في بغداد للحفاظ على هذه الحكومة؟ ماذا سيحدث بعد انسحاب القوات الأمريكية؟ كم عدد الخسائر التي يمكن أن تقبلها الولايات المتحدة في محاولة لتحقيق الاستقرار؟ رأيي هو أننا (...) كنا سنرتكب خطأ لو تورطنا في المستنقع العراقي. والسؤال الذي يخطر ببالي هو: كم من الخسائر الأمريكية تستحق الإطاحة بصدام؟ الجواب هو: قليلا جدا (3) ". كان هذا الرأي المعتدل هو رأي وزير الدفاع آنذاك، السيد ريتشارد تشيني، نائب الرئيس الحالي للولايات المتحدة...

  ويمكن طمأنة الذين أوصوا بشدة بعد ذلك "بتغيير النظام" في بغداد من خلال العقوبات المفروضة على العراق منذ أكثر من عشر سنوات. فقد نظموا أنفسهم في مجموعات ضغط، بما في ذلك مشروع القرن الأميركي الجديد، وقاموا بتنظيم الدعم السياسي بشكل منهجي لشن هجوم مستقبلي على العراق، بمجرد أن تكون الظروف مناسبة. وفي الوقت نفسه، شعر الإسرائيليون بالارتياح لرؤية وزير الخارجية جيمس بيكر، بدءا من المؤتمر العربي الإسرائيلي في مدريد في أكتوبر 1991، لفرض السياسة الأمريكية الرسمية في فلسطين يتم التخلي عنها تدريجيا. وبعد عام 1996، لم تكن "عملية السلام" أكثر من غطاء لمضاعفة عدد المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية.

وإلى الشرق من قوس الأزمة، كانت نتيجة الحرب في أفغانستان مختزلة في تسويات ونزاعات بين أمراء الحرب في التحالف الشمالي وحركة طالبان. ومع نهاية الحرب الباردة، اعتمدت الولايات المتحدة اعتمادا كليا على باكستان، التي كانت نفسها تتوجه نحو بنظام عسكري إسلامي قدمت له أفغانستان الإسلامية عمقا استراتيجيا ضد الهند. وسمح انتصار طالبان، بمساعدة الاستخبارات العسكرية الباكستانية إلى حد كبير، لباكستان بتعزيز علاقتها مع النظام الجديد.

 وهكذا، لم تأخذ الولايات المتحدة في الاعتبار على مدى هذه العقود تطلعات الشعوب العربية والإسلامية. فقد نفذت السياسات، وحشدت الجيوش، وأبرمت تحالفات وتخلت عن أخرى وخاضت حروبا على أراضي وأجساد العرب والمسلمين، ولكن لأسباب تتعلق دائما بمصالح أخرى.   إن الدليل هو كثرة التناقضات والانتكاسات في السياسات تجاه العراق وإيران والأصولية الشيعية والسنية وأيديولوجية الجهاد والديكتاتورية والديمقراطية والملكية المطلقة وياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية والمستوطنات الإسرائيلية و"عملية السلام"، إلخ. فقد حشدت الولايات المتحدة قواها لتحقيق أهدافها الخاصة سواء لتأمين إمداداتها النفطية، أو لكسب الحرب الباردة، أو لتأكيد هيمنتها، أو لدعم إسرائيل وبمجرد تحقيق أحد هذه الأهداف، "نسيت" كل مخاوف العرب والمسلمين التي تذرعت بها للحصول على دعمهم لها.

 وليس هناك ما هو أكثر إهانة للعالم العربي والإسلامي من رد السيد بريزينسكي الشهير، قبل ثلاث سنوات من 11 سبتمبر 2001: ردا على سؤال حول اي ندم قد يشعر به لسماحه لحركة جهادية بإثارة الغزو السوفياتي لأفغانستان، قال "أندم على ماذا؟ (...) ما هو الأكثر أهمية في تاريخ العالم؟ طالبان أم سقوط الإمبراطورية السوفيتية؟ بعض الإسلاميين المتحمسين أو تحرير أوروبا الوسطى ونهاية الحرب الباردة؟ (4). وعلى هذا الأساس، فإن الأحداث "التي غيرت العالم" على مدى السنوات الخمس الماضية - من هجمات 11 سبتمبر إلى غزو العراق واحتلاله. في عام 2003، كان "النصر" الأميركي الوحيد الممكن هو الانتقال السريع إلى دولة مستقرة وموحدة وديمقراطية وغير ثيوقراطية وقبل كل شيء دولة غير محتلة. لقد كان رهانا محفوفا بالمخاطر ولكنه لم ينجح.  ووفقا لجنرال أمريكي متقاعد، فإنها "أكبر كارثة استراتيجية في تاريخ الولايات المتحدة" (5). هذه الهزيمة لا رجعة فيها.

ومن الواضح أن الفائز هو إيران. وقد قضت الاستراتيجية الأمريكية لتفكيك الجيش العراقي والهياكل البعثية على العدو التقليدي لطهران، في حين ساعدت ثقة الولايات المتحدة في رجال الدين الشيعة ساعدت حلفاء إيران داخل العراق.  وهكذا عززت واشنطن نفس الدولة التي زعمت أنها تحارب ضدها.

إن التداعيات كبيرة على الولايات المتحدة والعالم العربي الإسلامي بأسره. فالقومية العربية العلمانية واليسارية، التي حددت الإطار الإيديولوجي لمقاومة الهيمنة الغربية، أفسحت المجال للتيارات الإسلامية التي تسجن المقاومة داخل إطار أيديولوجي جد محافظ.  وهكذا تشابكت الصراعات السياسية حول الاستقلال الوطني ومسارات التنمية مع النزاعات الدينية والثقافية والطائفية.   وكان الغرب قد شجع في بعض الأحيان على هذا التحول النموذجي في الماضي. واليوم، تمنح انتكاسة الولايات المتحدة في العراق إلى طهران فرصا جديدة لتحمل شعلة القومية العربية تحت راية الإسلام.

ويبدو أن الجمهورية الإسلامية هي بطل جبهة جديدة من النضال تجمع بين القومية العربية والمد المتصاعد للمقاومة الإسلامية.  ولهذه القوى مزايا رئيسية: فهي يمكن أن تسهل أو تعقد وضعية القوات العسكرية الأمريكية؛ ويمكن أن تساعد في هزيمة الإسرائيليين في لبنان من خلال حلفائها في «حزب الله»؛ بل إنها تستطيع مد يد العون للفلسطينيين من خلال دعمها لحركة حماس. ويمتد نفوذها إلى المناطق ذات الأغلبية الشيعية والمنتجة للنفط في الخليج والمملكة العربية السعودية. بل إنها في وضع يمكنها من ملء الفراغ الهائل في السلطة الإقليمية الناجم عن تدمير الدولة العراقية، والتأثير في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وتحويل طبيعة العلاقات الشيعية السنية التي استمرت قرونا.

 إن التهديدات، بما في ذلك العسكرية، من الولايات المتحدة وإسرائيل لا تؤدي إلا إلى تعزيز الأهمية الاستراتيجية لإيران، وتكرس وضعها كطليعة للمقاومة في العالم العربي الإسلامي.  خاصة وأن واشنطن وتل أبيب تعانيان من تناقض: فهما مقتنعتان بالحاجة إلى التدخل المسلح، لكنهما تدركان أنه لا بد أن يقتصر على القصف الجوي وعمليات القوات الخاصة. ومع ذلك، فإن مثل هذا الهجوم لا يمكن أن يدمر النظام بأكمله، بل على العكس من ذلك. هل لهذا السبب يفكر الرئيس الأمريكي ونائبه في استخدام الأسلحة النووية؟ (6).  ومن المسلم به أن عواقب هذه المغامرة على الصعيدين الإقليمي والدولي ستكون هائلة، ولكن يتعين على الولايات المتحدة أن تستعيد مصداقيتها وأن تثير مرة أخرى الخوف الذي تقوم عليه أية إمبراطورية. 

ومن بين الاستراتيجيات الأخرى التي نوقشت في واشنطن استغلال الانقسام الطائفي بمساعدة المملكة العربية السعودية. هناك إذن اتجاهان متناقضان في هذا المشهد.  الأول هو التقارب بين السنة والشيعة، لا سيما منذ حرب لبنان في صيف عام 2006، التي كشفت عن التقارب الواضح بين طهران وحزب الله، وحوّل الشيخ حسن نصر الله إلى بطل في العالم العربي، وبدرجة أقل حماس. وفي خطوة غير مسبوقة، يزعم رجال الدين السنة المحترمون الآن أن الخلافات مع الشيعة تتعلق بجوانب ثانوية من الدين – في الفروع وليس في الأصول (7).   أما الاتجاه الثاني فهو التوترات التي أعادها الاحتلال إلى الظهور بين طائفتيْ الإسلام وخاصة في العراق. خاصة وأن السكان الشيعة، الذين يتركزون منذ قرون في المناطق الاستراتيجية، كثيرا ما عوملوا بازدراء من طرف القوى السنية: ومن هنا جاءت الفرصة المواتية للتعبير عن استيائهم وغضبهم.  وعلى العكس من ذلك، فإن انتهاكات الميليشيات الشيعية والإعدام المخزي لصدام حسين يدفع السنة إلى الكراهية.

ويعتقد بعض المسؤولين الأمريكيين أن الرياض يمكن أن تصبح ممولة لحركة مقاومة سنية في مواجهة هؤلاء الشيعة المنحرفين. إن النظام السعودي في الواقع معادي جدا لتطور النفوذ الشيعي والجمهورية الإسلامية في المنطقة وقد وعد بالفعل، إذا لزم الأمر، بحماية السنة العراقيين.  هل تستطيع المملكة العربية السعودية والممالك الخليجية ومصر والأردن والأكراد والسنة العراقيين واللبنانيين ومنظمة فتح الفلسطينية مواجهة نفوذ إيران الشيعية وسوريا العلوية وحلفائها حزب الله اللبناني وحماس الفلسطينية؟ وحتى يكون "المعتدلون" العرب جديرين بالثقة، ينبغي أن يكونوا قادرين على تقديم حل عادل وسريع للمشكلة الفلسطينية. ولكن إذا انخرطت الولايات المتحدة وإسرائيل في هذه المغامرة، فإنها سوف تتهرب من أي تسوية جادة.

 

مضاعفة المراهنة

 ومن شأن استراتيجية التوتر الطائفي هذه أن تؤدي إلى حرب أهلية بين المسلمين. ومن سيشاركون فيها سينظر إليهم على أنهم عملاء يمزقون المنطقة نيابة عن إسرائيل والولايات المتحدة. وما هي القوى الإسلامية والسنية والمعادية للشيعة التي يمكن مساعدتها؟ وقد يكتشف الرأي الغربي وحتى الأمريكي برعب أن حكومتهم تبني مرة أخرى "جيوش الجهاد السلفية"، وهي القاعدة تحت اسم آخر. ومثل هذا السيناريو لن يؤدي إلى "النصر"، بل إلى سلسلة من الأزمات الجديدة.

 هذه الاستراتيجية، يسميها المحافظون الجدد الفوضى الخلاقة، ولكن المراقب الذكي يسميها على نحو أكثر ملاءمة تدمير الدول (8).   وفي نهاية المطاف، قبلت الولايات المتحدة مثل هذا التوجه في لبنان وفلسطين. إذا ما تفحصنا النتائج وليس النوايا، يمكن للمرء أن يفهم لماذا يستنتج العرب والمسلمون أن سياسة واشنطن في الشرق الأوسط ليست إنقاذ "الدول المفلسة"، بل إنتاجها.

 وقد أسفر الهجوم على لبنان، الذي تسبب في الكثير من الدمار، عن هزيمة: فقد أصبحت إسرائيل أكثر عزلة في المنطقة والعالم؛ ومن الناحية العسكرية، لم يفقد «حزب الله» أبدا قدرته على التواصل مع مقاتليه، أو بث رسائله إلى السكان عبر الإذاعة والتلفزيون، أو إلحاق الخسائر بالغزاة، أو إرسال القذائف الصاروخية على إسرائيل (9).  ولم يحقق الإسرائيليون أيا من أهدافهم المعلنة، لا نزع سلاح حزب الله ولا عودة جنودهم الأسرى.

والسؤال المطروح على إسرائيل في لبنان، وكذلك بالنسبة للولايات المتحدة في العراق، هو ما إذا كان بوسعهم قبول هذه النكسات أو ما إذا كانوا يميلون إلى "مضاعفة الرهان". هل هذه الهزائم هي نذير حروب الجيل الجديد؟  أم أنها مؤقتة فقط؟ هناك شيء مؤكد: لقد انتهى نموذج النصر الذي لا يسفر عن "وفيات" خلال حرب الخليج (1990-1991) أو في البلقان، من خلال القصف الهائل واستخدام الأسلحة المتقدمة. وما هو الآن على المحك هو السيطرة الطويلة الأجل وولاء السكان الذين لا تستطيع القوات الجوية ضمانهم والذي يتطلب تكلفة سياسية وبشرية كبيرة.

وقد دفعت واشنطن بالفعل ثمنا باهظا لدورها في هذه الحرب الصغيرة. إن صورة رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة، والدموع في عينيه وهو يناشد الولايات المتحدة وقف تدمير بلاده، يمكن أن ينظر إليها على أنها نقطة تحول.  وكانت حركة 14 أذار اللبنانية قد تولت السلطة من خلال "ثورة الارز" التي يدعمها البيت الابيض وأشاد بها باعتبارها نوعا من الإصلاح الديموقراطي الذي يريد الرئيس جورج بوش تشجيعه في العالم العربي. ولكن في مواجهة رغبة إسرائيل تلقين لبنان درسا، تم التخلي عن السيد فؤاد السنيورة.  ولم تمنع واشنطن وقف إطلاق النار لمدة شهر فحسب، بل زودت إسرائيل أيضا بالأسلحة المدمرة.

وكانت النتيجة ما وصفه السيد السنيورة بأنه تدمير "لا يمكن تصوره" للبنية التحتية المدنية (10) في لبنان وكذلك إضعاف للحكومة نفسها.  ويطالب «حزب الله» بدور أكبر اليوم، وفي "ثورة الأرز" المقلوبة، ينظم احتجاجاته الضخمة والسلمية والمنضبطة في الشوارع، في محاكاة التكتيكات التي تشجعها الولايات المتحدة والغرب. "لا تخشى الولايات المتحدة المشاركة" في هذا الصراع الداخلي، فهي الآن تضاعف مساعداتها للجيش اللبناني وقوات الأمن الداخلي، التي تكثف تجنيدها من بين السنة والدروز (11). هذه السياسات، التي لم يتم التعليق عليها كثيرا في الولايات المتحدة، تنكرها الصحافة العربية والإسرائيلية والعالمية. بعد هذه الحرب، سيكون من الصعب جدا إقناع العالم العربي الإسلامي بأن الولايات المتحدة ليست مستعدة لخيانة أي حليف أو انتهاك مبادئ العدالة لغرض وحيد هو مساندة إسرائيل.

 من خلال تدمير البنية التحتية المدنية، وإضعاف التماسك الاجتماعي والسياسي، وخلق منطق يؤدي إلى صراع طائفي وحرب أهلية: عندما تسارعت هذه الديناميكية في العراق، بدا أنها كانت نتيجة وخيمة لم تخطط لها واشنطن. وعندما توجد هذه العناصر نفسها في لبنان، هل لا يزال بوسعنا أن نتحدث عن مصادفة مؤسفة. ولكن بمجرد ظهور ديناميكية مماثلة في فلسطين، لم يعد العديد من المراقبين يترددون في الحديث عن "نموذج" للاستراتيجية الأميركية.

 

فلسطين والفوضى المفتعلة

تشهد الأراضي الفلسطينية أزمة إنسانية واسعة النطاق. ومنذ فوز حماس في انتخابات يناير 2006، انضمت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى إسرائيل في محاولة تجويع الفلسطينيين ودفعهم إلى رفض حكومتهم المنتخبة ديمقراطيا. والنتائج المتوقعة لهذه الهجمات هي انهيار النظام الاجتماعي والانزلاق إلى الصراع الأهلي.

 ويصف مراقب أمريكي متبصر هذا المشهد المأساوي على النحو التالي: "يعيش الفلسطينيون في غزة محبوسين في سجن قذر ومكتظ، محاط بالجيش الإسرائيلي وحاجز كهربائي ضخم؛ و"يعيش الفلسطينيون في غزة في حي يهودي مكتظ ومكتظ، محاطين بالجيش الإسرائيلي وحواجز كهربائية ضخمة وهم غير قادرين على مغادرة قطاع غزة أو دخوله بسهولة ويواجهون اعتداءات يومية. (...) إن المحاولات الإسرائيلية للدفع نحو انهيار القوانين وغياب النظام والأمن وزرع الفوضى والتسبب في ندرة واسعة النطاق للبضائع أمر واضح في شوارع مدينة غزة ذاتها، حيث يمر الفلسطينيون أمام أنقاض وزارة الداخلية الفلسطينية ووزارة الخارجية ووزارة الاقتصاد الوطني ومكتب رئيس الوزراء الفلسطيني وبعض المؤسسات التعليمية التي قصفتها الطائرات الإسرائيلية(...). الضفة الغربية تغرق بسرعة في أزمة شبيهة بأزمة غزة. (...) ما الذي تنوي الولايات المتحدة وإسرائيل كسبه من خلال تحويل غزة والضفة الغربية إلى نسخة مصغرة من العراق؟ (...) هل يعتقدون أنهم بهذه الطريقة سينجحون في إضعاف الإرهاب والحد من التفجيرات الانتحارية وإحلال السلام؟ " (12).

واتخذت الولايات المتحدة خطوة جديدة بتسليم الأسلحة، بمساعدة إسرائيل إلى "مقاتلين في غزة مسلحين تابعين إلى محمد دحلان" الرجل القوي في حركة فتح؛ و "طبقا لمسؤولين في أجهزة الأمن الإسرائيلية والفلسطينية فان شحنات الأسلحة الأميركية هذه أثارت سباقا للتسلح مع حركة حماس (13).

ومهما كانت النوايا، فإن منطق التفكك الاجتماعي والحرب الأهلية ينكشف، من خلال السياسة الأمريكية، في ثلاثة بلدان حددتها إسرائيل كفضاءات للمقاومة لها طموحات إقليمية. هناك نواة صلبة من الصهاينة اليمينيين الذين يرغبون في إخضاع الفلسطينيين أو ترحيلهم بعيدا عن جميع الأراضي التي تطمع فيها إسرائيل.  ولتحقيق ذلك، يريدون إضعاف جميع الجيران المتمردين. ومن المخيف، ولكن ليس من المستغرب، أن نرى هؤلاء المتعصبين يحتلون مواقع السلطة في الحكومة الإسرائيلية. ومن الصادم أن نعتقد أن واشنطن يمكن أن تتبعهم، أو حتى أن تكون مهندسة، مثل هذه الاستراتيجية التخريبية، باسم فكرة خاطئة عن معنى الصداقة لإسرائيل. 

وإذا كانت الولايات المتحدة حقا صديقة لإسرائيل، فلا ينبغي لها أن ترفض في السير في هذا الطريق فحسب، بل أن تشاطر هذه الملاحظة التي أبداها أحد المراقبين الإسرائيليين: "إن سياسة إسرائيل لا تهدد الفلسطينيين فحسب، بل تهدد أيضا الإسرائيليين أنفسهم...إن دولة يهودية صغيرة من سبعة ملايين نسمة (منهم خمسة ملايين ونصف المليون يهودي)، محاطة بمئتي مليون عربي، تعادي العالم الإسلامي بأسره. وليس هناك ما يضمن بقاء مثل هذه الدولة على قيد الحياة. إن إنقاذ الفلسطينيين يعني أيضا إنقاذ إسرائيل". (14).

إن هزيمة الولايات المتحدة تبدو ممكنة ليس فقط في الشرق الأوسط. فإلى الشرق أيضا، في أفغانستان، هي تتعرض لضغوط شديدة. وبعد 11 سبتمبر، لم يشكك أحد في أن لواشنطن الحق في ملاحقة أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة باستعمال القوة. بيد أن قرار شن عملية عسكرية كبيرة تشارك فيها منظمة حلف شمال الأطلسي من أجل إعادة بناء البنية التحتية السياسية للبلاد كان محفوفا بالمخاطر.  ويتطلب النجاح نصرا عسكريا حاسما، يليه التزام مالي وسياسي قوي وطويل الأجل بإصلاح المجتمع، بالاعتماد على حلفاء محليين موثوق بهم ومحترمين وملتزمين أيضا بضرورة الإصلاح. ثم نضيف أن تحويل القوات والموارد الضرورية في مطاردة القاعدة نحو العراق يشير إلى الطابع الثانوي لأفغانستان في نظرة إدارة الرئيس بوش، على الرغم من ارتباط البلاد المباشر بهجمات 11 سبتمبر.    وهذا يعني أن "الحرب على الإرهاب" أخفت أهدافا غير مكشوفة.

وعلى أرض الواقع، اعتمدت الولايات المتحدة على أمراء الحرب في التحالف الشمالي لتحقيق نتائج سريعة، واعتمدت على رئيس مستورد لتجميع بعض مظاهر الحكومة المركزية في كابول. ولم تتمكن أمريكا من القضاء على قادة القاعدة وعلى طالبان، وسرعان ما تخلت عن الأراضي الأفغانية للاهتمام بالعراق.  ويواصل بن لادن وأيمن الظواهري بث الأشرطة المسجلة؛ وحركة طالبان، التي حافظت على علاقات وثيقة مع قبائل البشتون على جانبي الحدود الباكستانية الأفغانية، تعيد تجميع صفوفها وتشكل تهديدا حقيقيا لقوات حلف شمال الأطلسي، التي كانت مرابطة في معسكراتها، ولم تتقدم إلا لتنفيذ غارات للقصف الجوي، بل إن وزير خارجية باكستان ذهب إلى حد الإعلان عن ضرورة أن "يقبل حلف شمال الأطلسي الهزيمة" وأن قواته لابد وأن تنسحب.  لقد ضلت محاولة واشنطن الخرقاء لشن معركة قصيرة ضد تنظيم «القاعدة» طريقها ليس فقط بسبب تعقيد القبائل الأفغانية وأمراء الحرب، ولكن أيضا بسبب لعبة باكستان الخطيرة والمعقدة.  ويتعين على هذه الأخيرة، في معركتها الحيوية من أجل كشمير، أن تعتمد على جماعاتها الإسلامية. وتدعو إسلام آباد حلف شمال الأطلسي والحكومة الأفغانية إلى قبول الوجود الحتمي في أفغانستان ل "طالبان المعتدلة"، التي تنازلت لها عن السيطرة على إحدى مناطقها - شمال وزيرستان. ونتيجة لذلك، تم إنشاء قاعدة يهاجم منها "طالبان وليس المعتدلون" جنود حلف شمال الأطلسي، وهو أمر لم يسبق له مثيل في هذا البلد، عبر تقنية "الهجمات الانتحارية": هل أصبحت الصلة بالعراق حقيقة واقعة؟   ونتيجة لهذا فإن "الحرب على الإرهاب" انتهت إلى دفع الولايات المتحدة إلى الاعتماد على باكستان، التي هي نفسها في تحالف بنيوي مع الإسلامويين المتطرفين. وعلاوة على ذلك، تعتقد النخب والنظام الباكستاني أن بلادهم محمية من الأسلمة الزاحفة بفضل النفوذ التقليدي القبلي الذي يميز هذا المجتمع فهل ستصبح القاعدة باكستانية أو سيتحول باكستان إلى فرع من فروع القاعدة؟ وتتجاهل وسائل الإعلام الأمريكية هذه الظاهرة المزعجة.

وهكذا يمتد قوس الأزمة من بلدان المشرق العربي إلى شبه القارة الهندية. وفي الأشهر المقبلة، ستتخذ قرارات، قبل كل شيء في واشنطن، من شأنها أن تفاقم هذه الأزمات أو تلزمها بمسارات جديدة أكثر ملاءمة مع الواقع على الأرض.  ويجب على القادة الغربيين، لكي يجعلوا من هذه النقطة نقطة تحول، أن يفهموا أن تنظيم «القاعدة» و «حزب البعث» و«حزب الله» و«حماس» وسوريا وإيران لا يمكن تصنيفها جميعا تحت نفس التسمية الأيديولوجية المجردة ل "محور الشر". وتوجد روابط بين الأزمات، ولكن يجب أيضا السعي إلى فصل مختلف عناصرها ونزع فتيلها.

 

سوريا أو الخصم المتحكم فيه

 هذا هو الحال أيضا مع سوريا، البلد الذي لا يهدد الولايات المتحدة، والذي ساعدها بالفعل في عدة مناسبات والذي له أيضا مصالحه الوطنية المشروعة الخاصة على المحك: يجب التوصل معه إلى اتفاق بشأن إخلاء مرتفعات الجولان، التي لا يعود احتلالها من قبل إسرائيل بأية فائدة على الولايات المتحدة. وينطبق المنطق نفسه على «حزب الله» في لبنان و"حماس" في فلسطين، اللذين يعملان بشكل رئيسي وفقا لمصالحهما الوطنية. ويمكن للولايات المتحدة أن تتخلص من عدد من المشاكل وبالتالي تعزز مصالحها الخاصة، بما في ذلك هزيمة "الإرهاب" المتعصب الحقيقي. ولهذا، يجب أن تدرك وتعترف أن هذه الجماعات ليست كلها فروعا أو نسخ من تنظيم القاعدة، كما أنها لن تصبح أبدا أدوات في يد “إمبراطورية الشر" تماما كما لم تتحول المقاومة الفيتنامية أداة لها ويمكن للمفاوضات أن تجعل كل دولة من هذه الدول أو الحركات خصوما يمكن التحكم فيها بسهولة.

 وتطالب الأصوات المؤثرة في قلب النظام السياسي الأميركي بتغيير مسارها: فتقرير بيكر -هاملتون هو التعبير الأكثر وضوحا عن ذلك. من جانبه، دعا الرئيس السابق جيمس كارتر إلى فتح نقاش صادق حول السياسة الأمريكية في فلسطين. ولإصلاح الضرر الذي حدث بالفعل، يتعين علينا أن نعترف بأن قرارات سيئة قد اتخذت وأن نتوجه نحو تحولات سياسية عميقة جدا. وسيتطلب ذلك التخلي عن فكرة أن مجرد استخدام القوة العسكرية الأحادية الجانب يمكن أن يحل المشاكل السياسية والاجتماعية المعقدة.  كما يتطلب هذا التحول التخلي عن الدعم غير المشروط لإسرائيل. وقبل كل شيء، سيتطلب الأمر التخلي عن فكرة أن مختلف شعوب وأمم العالم العربي الإسلامي عناصر قابلة للتبديل في نفس المخطط الإيديولوجي، يتم التلاعب بها كذلك لتلبية احتياجات القوى العظمى، أو لطموحات المستوطنين الإسرائيليين الإقليمية، أو لأحلام الأمة الوهمية لتنظيم القاعدة. لقد حان الوقت لوضع حد للنهج الإيديولوجي، والعودة إلى قليل من الواقعية.



1) Robert Dreyfuss, Devil’s Game: How the United States Helped Unleash Fundamentalist Islam, Metropolitan Books, New York, 2005, p. 240.

(2) Lire Pierre Abramo ici, « L’histoire secrète des négociations entre Washington Et les talibans », Le Monde diplomatique, janvier 2002.

(3) Soref Symposium, 29 avril 1991. www.washingtoninstitute.org/templat...

(4) Le Nouvel Observateur, Paris, du 15 au 21 janvier 1998.

(5) William E. Odom, « What’s wrong with cutting and running? », The Lowell Sun, Lowell (Massachusetts, États-Unis), 30 septembre 2005.

(6) Jorge Hirsch, « Nuking Iran is not off the table », 6 juillet 2006, www.antiwar.com/orig/hirsch.php ?art.... Cf. également Philip Giraldi, « Deep background », The American Conservative, Arlington (Virginie), 1er août 2005.

(7) Foru’ signife « branche », et osul « source ».

(8) Sarah Shields, « Staticide, not civil war in Iraq », 6 décembre 2006, www.commondreams.org/views06/1208-32.htm

(9) Alastair Crooke et Mark Perry, « How Hezbollah defeated Israel », Counterpunch.org, 12 et 13 octobre 2006.

(10) www.archive.gulfnews.com/indepth/is...

(11) www.english.chosun.com/w21data/html...). Cf. également Megan K. Stack, « Lebanon builds up security forces », Los Angeles Times, 1er décembre 2006.

(12) Chris Hedges, « Worse than apartheid », www.truthdig.com/report/item/200612...

(13) Aaron Klein, « US weapons prompt Hamas arms race? »

(14) Tanya Reinhardt, « The Road Map to Nowhere – Israel/Palestine since 2003 », ZMag, 8 octobre 2006.

(15) Lire Syed Saleem Shahzad, « Comment les talibans ont repris l’offensive », Le Monde diplomatique, septembre 2006.

الأنظمة العربية تقوم بتحديث... السلطوية

التكيف مع إكراهات الداخلية والخارجية

أبريل 2008

منذ حرب الخليج الأولى (1990-1991)، شهدت بلدان الشرق الأوسط والمغرب العربي سلسلة من الاضطرابات التي كانت ستزعزع استقرار العديد من الأنظمة الحاكمة في كل مكان آخر. ومع ذلك، تمكن معظم الأنظمة من الحفاظ على هياكل قديمة لم تستطع محوها لا الحرب العالمية الثانية ولا نهاية الاستعمار. وتكافح المعارضة الفعالة من أجل الوجود في الوقت الذي يحاول فيه الحكام إنقاذ صورتهم في أعين العالم.

لنتذكر طوفان الخطاب المتفائل الذي تلا سقوط جدار برلين في نوفمبر 1989 وبعد حرب الخليج الأولى (يناير - مارس 1991): فقد طُرد صدام حسين من الكويت وبات من الممكن تأسيس نظام عالمي جديد. وقيل إن قواعد القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة سوف تطبق الآن في كل مكان - بما في ذلك في فلسطين. ومن المرجح ن تجتاح موجة من الديمقراطية مجموع العالم العرب (1).  وسوف تصبح معايير الديمقراطية وحقوق الإنسان متساوية في مختلف أنحاء العالم، وسوف يتم تشجيع الأنظمة الاستبدادية بقوة (ولكن ليس قسرا) على التحول الديمقراطي. وعلى الجانب الاقتصادي، فإن "التقويمات الهيكلية" (بما في ذلك عمليات الخوصصة وتخفض الدعم العمومي)، واتفاقات التجارة الحرة، والدعوة إلى الاستثمار، والحوافز اللازمة لإنشاء المشاريع، من شأنها أن تؤدي في نهاية المطاف إلى ظهور طبقات متوسطة جديدة. إن الأطراف الفاعلة الاجتماعية والاقتصادية، بالانسجام مع القوى الوطنية والدولية الأخرى، ستدفع المنطقة إلى طريق الدينامية الاقتصادية وإرساء الديمقراطية. وكما هو الحال في أميركا اللاتينية وجنوب أوروبا (إسبانيا واليونان وإيطاليا)، فإن النخب الذكية هي التي سوف تلعب دور الحافز للتحولات السياسية (2). وهكذا فإن الشرق الأوسط سيكون قادرا على الانضمام إلى ما كان ينظر إليه آنذاك على أنه حركة للتقدم العالمي. 

وبعد عشرين عاما، فإن الحصيلة العامة لهذه الآمال في مختلف المجالات (العلاقات السياسية والاقتصادية والأيديولوجية والدولية) تبعث على الخيبة. ومن الناحية السياسية، هناك ثلاثة أنواع من الأنظمة الحاكمة تتقاسم المنطقة: الأنظمة "المغلقة" (ليبيا وسوريا، إلخ)، حيث لا يوجد ولو مظهر واحد من مظاهر التعددية؛ وأنظمة "الأنظمة" (ليبيا، وسوريا، إلخ)، حيث لا يوجد حتى مظهر التعددية؛ و"الأنظمة الهجينة " (الجزائر ومصر والأردن والمغرب والسودان واليمن)، حيث يتعايش الاستبداد مع بعض أشكال التعددية؛ والأنظمة "المنفتحة"، والحالة الوحيدة هي، في الوقت الراهن، موريتانيا، التي شهدت تغييرا حقيقيا.

الطبقات الوسطى تحت السيطرة

وعلى الصعيد الاقتصادي، وفي حين حفزت السياسات الليبرالية الجديدة النمو، فإنها لم تحول هذه البلدان إلى عناصر دينامية للاقتصاد العالمي، وبالتأكيد لم تخفف من الحرمان ولم تخفف التفاوت الاجتماعي.  وبطبيعة الحال، تغرق بلدان النفط في بحر من الأموال ولكن هذا يرجع فقط إلى ارتفاع سعر "الذهب الأسود" ولا يعكس أي إبداع هيكلي. وبفضل أدوات مثل صناديق الثروة السيادية، يستطيع بعض الحكام "استعراض عضلاتهم المالية" من خلال شراء شركات ومؤسسات من داخل البلدان الصناعية الكبرى التي تعاني من الأزمة، وبالتالي تنويع مصادر دخلهم. 

ولكن هذه الظاهرة ليست سوى نتيجة لأوجه القصور في بلدان الشمال وليست بأي حال من الأحوال علامة على نجاح تحول الهياكل الاقتصادية. أما بالنسبة للبلدان العربية الرئيسية الأخرى، فهي لا تزال تواجه مشكلة خطيرة تمثلت في أعداد هائلة من الشباب الذين يعانون من الفقر. ولم تتمكن مصر، وهي الأكثر اكتظاظا بالسكان، من الإفلات من ظاهرة الريع - حيث أصبحت المساعدات الخارجية تمثل نوعا من الريع الاستراتيجي. 

ومن ناحية أخرى، لا تزال الطبقات الوسطى الجديدة تعتمد على تدفق عائدات النفط وبشكل أعم على العلاقات الاجتماعية والعائلية التي لم تنقطع. إن الدولة الاستبدادية، الملكية أو الجمهورية، تستمر في الوجود وتظهر قدرة كبيرة على التكيف. إن رجال الأعمال الأثرياء مدينون للدولة بشبكات نفوذهم وصفقاتهم؛ ويتعين على أصحاب المشاريع الأصغر حجما وحتى الباعة المتجولين أن يستمروا في الامتثال للتوجيهات الوزارية، والنصوص التنظيمية القاسية، ودفع الرشاوي، وحتى المهن الحرة والفكرية تظل معتمدة على مؤسسات الدولة وتدفع ثمنا باهظا عن كل تجاوز للحدود المرسومة سلفا من طرف السلطات.

ومن المؤكد أن تسمية "الطبقات الوسطى" تسمية مرنة وتشمل مجموعة واسعة من الفئات الاجتماعية، من رجال الأعمال إلى المعلمين، ومن الممرضات إلى أصحاب المتاجر، ومن الفنانين إلى موظفي الخدمة المدنية. وبعضها ينحدر من أسر عريقة لها امتداد محلي أو وطني؛ والبعض الآخر هو أول من ارتقى في أسرته إلى ما فوق مستوى الكفاف وغادر مرحلة الأمية والجهل؛ وكثير من أفراد هذه الطبقة المتوسطة سوف يلتحقوا بالفئة الفقيرة عند حدوث أول أزمة. وينتمي كبار ضباط الجيش الآن إلى طبقة البرجوازية الجديدة، التي لها أرصدة كبيرة في الاقتصاد الوطني.  وإلى جانب كبار المسؤولين والبيروقراطيين الذين جمعوا الثروة من خلال مناصبهم، فإنهم يشكلون قطاعا من "الطبقات الوسطى" الرافضة لأي تغيير.

 وهناك أيضا طبقة وسطى "معولمة" ذات وجهين: من ناحية، المهنيون ورجال الأعمال المغتربون، الذين لا يسمح دعمهم لأسرهم في الوطن إلا بشراء متجر أو أعمال تجارية صغيرة أخرى؛ ومن ناحية أخرى، فإن الفئات الاجتماعية التي تواجه غياب الآفاق الداخلية، والتي يكمن أملها الوحيد في الرفاه الاقتصادي في فضاءات أخرى حتى ولو كان ذلك في مكان آخر بعيد المنا (3).

وهذان النوعان من الهجرة هما أيضا من أعراض نفس القصور: فالدولة لا تؤدي دورها كموفر للوظائف والحماية الاجتماعية. ومن هنا كان فقدان الفرد للشعور بوجود صلة بين مصيره الشخصي وأي مشروع وطني مشترك مع الجميع.

وفي الوقت نفسه، لا تشكل هذه "الطبقات الوسطى" المختلفة سوى نصيبا متناهي الصغر من سكان البلدان التي تعيش فيها الغالبية العظمى على القرب من عتبة الكفاف وحيث لا يكاد يوجد التعليم العام. وينتمي الذين يطالبون بنشاط بالديمقراطية إلى هذه الفئات غير المتجانسة: الطلاب، وأصحاب المهن الحرة، ورجال الأعمال المتواضعون، والمحامون، والقانونيون، والفئات الاجتماعية المهمشة (النساء، والجماعات الإثنية الإقليمية والأقليات اللغوية). ولكن كيف يمكن لهم التعبير عن مطالبهم وربطها بالمطالب المحة للقطاعات الأكثر حرمانا في المدن والبوادي؟

ومن الناحية الأيديولوجية، توافق جميع هذه الفئات على المطالبة ب "الديمقراطية"، ولكنها تنقسم بطريقة حادة جدا كل حسب منطقته بشأن التعبير عن هذه المسألة المهمة أو تلك. ومنذ أوائل التسعينات، فشلت الأشكال التي اتخذها التحرير الاقتصادي والسياسي في نشر الأفكار التقدمية والعلمانية بين الطبقات الوسطى والشعبية. لقد أصبح الإسلام السياسي، بأشكاله المختلفة، يبدو أفضل معبر عن الغضب والمطالبة بالتغيير، حتى بين الجماعات اليسارية والعلمانية التقليدية، مثل الطلاب.

وفي حين أن الأصوات العلمانية والإسلامية هي جزء من نفس الجوقة العظيمة التي تطالب بالديمقراطية، فإن البعض يغني لحن النظام الاجتماعي القائم على القانون والمبادئ السياسية الحديثة المقبولة عالميا، والبعض الآخر يردد مبادئ النظام السياسي القائم على مجموعة من المبادئ الفقهية أو القرآنية. ويسعى البعض إلى إرساء سيادة الإرادة الشعبية التي يحددها القانون؛ ويسعى البعض الآخر إلى بسط سيادة السلطة المطلقة التي تنبع من لمعتقد. وحتى إذا كان من الجدير بالملاحظة أن بداية منعطف بدأت تلوح في الأفق عند جماعة الإخوان المسلمين المصرية أو عند في حزب العدالة والتنمية في المغرب بشأن مسألة الديمقراطية وسيادة الشعب؛ لكن العقبة هي أن الايديولوجيات لا تختفي بسهولة من الأذهان..

باختصار، لم تؤد "الإصلاحات" التي عرفتها منطقتنا على مدى السنوات الخمس عشرة أو العشرين الماضية تحت ضغط الغرب إلى المسار الذي من شأنه أن يؤدي من التحرير الاقتصادي إلى الديمقراطية، من خلال التحديث والعلمنة. بل على العكس من ذلك، فقد قدمت دليلا دامغا على عدم وجود صلة ميكانيكية بين هذه المراحل المختلفة. كيف يمكننا تفسير الانجذاب الذي يبدو متناقضا الذي تمارسه أفكار الإسلام السياسي المعاصرة على العديد من الخريجين؟ ويرجع ذلك جزئيا إلى قدرته على دمج موضوعين: الاعتزاز الثقافي والهوية الدينية. ولفترة طويلة، كانت الأنظمة مكتفية بوضع السلطة الثقافية في أيدي المحافظين الدينيين الذين من المرجح، كما كان يعتقد، أن "يسيطروا على المجتمع". 

بعد كل الضربات التي تعرضت لها القومية العربية، وخاصة بعد هزيمة عام 1967، وتعاون الأنظمة العربية مع إسرائيل، وأخيرا غزو العراق وتفكيكه، استغل رجال الدين الاستياء من أنظمة الحكم التي زعم أنها من أبطال الثقافة العربية. والنتيجة هي هجين أيديولوجي قوي ولكنه مزعج.  لا شك إن اللغة العربية لديها تاريخ طويل من الإنتاج الثقافي الغني والمتنوع. لكن اليوم، يقوم العرب المثقفون العرب والمتحدثون عدة لغات، الذين يواجهون نقصا في الترجمات الجيدة، بجزء كبير من عملهم باللغتين الإنجليزية أو الفرنسية، ومن خلال ممارسة هذه اللغات، فهم يصبحون علمانيين أو يكادون. أما بالنسبة للشباب، فإنهم يلتقطون ما يستطيعون التقاطه من تدفق الثقافات العالمية، فيبدعون في الشارع وعلى شبكة الإنترنت نوعا من العامية الجديدة ولكنهم يتصرفون مثل العلمانيين عندما يقومون بتحميل المحتويات على اليوتيوب، وفي الوقت نفسه، يمارس المتعصبون الدينيون ضغوطا هائلة لمكافحة "تدنيس" اللغة العربية.

ومن المفارقات أن هذه الضغوط لها تأثير على إضعاف مكانة اللغة العربية في العالم. فهي تزيد من حدة الفجوة بين هذه الثقافة والأخرى التي تنتعش في الغرب والشرق، مما يعزز الانطباع بالضعف النسبي للمعرفة العربية. ولكن ما نحتاجه هو، على العكس من ذلك، أن يستخدم علماؤنا ومثقفونا وفنانونا، وكذلك الناس العاديون أشكالا "علمانية" أكثر مستفيدين من القوة الاستثنائية التي تتمتع بها ا للغة العربية.

 

القادة الذين يخافون من شعوبهم

 ومن الناحية الدينية أيضا، فإن هذا الهجين يفقر. تنبع جاذبية الإسلام جزئيا من مكانته كآخر دين إبراهيمي عظيم يقدم رؤية موجهة نحو الخلاص والفوز النهائي، ويشمل عناصر من الأيديولوجيات العلمانية من اليمين واليسار على حد سواء.  وهو مناهض للفردانية، ومعادي للأفراط في الاستهلاك، ومتجذر بقوة في حياة المجتمع. ولكن من الناحية الاجتماعية، يمكنه حسب التأويلات أن يكون محافظا جدا، وتراتبيا جامدا، ويحترم النظام العام والتقاليد، ومع ذلك، من المفترض أن يخاطب الجميع، وبالتالي فإن أي محاولة لإضفاء الطابع الأساسي على العلاقة بين الإسلام وثقافة معينة (وخاصة العربية) تنطوي على خطر تحويله إلى ظاهرة ثقافية، والإساءة إلى طبيعته العالمية. ونكتشف أعراض هذا التوجه في هجوم تنظيم القاعدة على “الفرس" أو بعض العلماء على "الأتراك". 

وتستند العديد من الأنظمة في شرعيتها إلى روايات وطنية تكاد تكون أسطورية ويظهرون فيها كمحررين ومدافعين عن الأمة في مواجهة الهيمنة الأجنبية، وأحيانا أيضا كمدافعين عن الإيمان والعقيدة. وكثيرا ما تكون هذه الروايات صحيحة: فقد لعبت العديد من الأحزاب والأسر الحاكمة بالفعل دورا بطوليا في مواجهة الاستعمار والحصول على الاستقلال الوطني والحفاظ عليه. وقد خلقت هذه الأساطير "الموحِّدة" التي نشرتها وسائل الإعلام الرسمية على نطاق واسع، تماهيا زائفا بين النظام والمجتمع، وغالبا بدعم متحمس من بعض المثقفين الذين يسعون إلى نزع فتيل المعارضة وتشجيع الرضوخ الأعمى للسلطة. 

ولكن في كل هذه الروايات الكبرى، هناك دائما غائبون: في مصر، إنهم الأقباط وفي المغرب والجزائر إنهم الأمازيغ في بلدان أخرى هم الأكراد أو الشيعة. ووراء الستار كانت التوترات الاجتماعية تقاوم هذا التجانس المزيف وكان الحكام خائفين من شعبهم ومرعوبين من أي انفتاح سياسي حقيقي. بعض أشكال الاستبداد لها لون شعبوي؛ وتوجد أنظمة تذهب إلى حد الاحتفاء بشعوبها وبطولاته. ولكن وراء هذه الواجهات الأبوية، تحتقر الحكومات والنخب الشعب بحجة أنها منحته الاستقلال وكل مكاسب الأمة.

وعلى مدى العقدين الماضيين، فقدت هذه الأيديولوجيات الموحدة قوتها وسحرها.  والآن، يتعين على الدولة الاستبدادية أن تتعامل مع مجموعة كاملة من الجماعات والطوائف الجديدة، ولكل منها موضوع السخط الخاص بها، وليس من الممكن تكميم أفواهها أو شراؤها جميعا. وفي الوقت نفسه، لا تثق هذه الجماعات ببعضها البعض. ولن يكون لدى العمال المناضلين نفس الأفكار التي يحملها الفلاحون الفقراء والمحافظون بشأن التغييرات الضرورية الأكثر إلحاحا. وقد لا يرضى رجال الأعمال المحليون عن مشاريع الأطر والمدراء المرتبطين بالمؤسسات المالية الدولية. وأخيرا، يضاف إلى كل هذه الانقسامات الخوف من التطرف الإسلامي - وهو الخوف الذي يتقاسمه الإسلاميون أنفسهم في بعض الأحيان.

وقد تعلمت الأنظمة الاستبدادية تحويل هذه الانقسامات لصالحها. فالدولة لم تعد تقدم نفسها على أنها مدافعة جامدة عن حقها في ممارسة السلطة بمفردها على شعب عديم الكفاءة بل إنها أصبحت أيضا حامية المعارضين "المعتدلين" ضد إخوانهم الأعداء، "المعارضين المتطرفين".

 هناك مثال مصري يجسد هذه التناقضات. ضمن برنامجها الاقتصادي الليبرالي الجديد، تحدثت الحكومة عن العودة إلى   مشروع الإصلاح الزراعي الذي بدأه الرئيس عبد الناصر، وأخذت الأراضي من أصحابها الحاليين - وهم عادة من الفلاحين السابقين – وأعادت توزيعها على بعض المزارعين أصحاب الفلاحة المرتفعة المردودية. وكان من المفترض أن يتم هذا "الإصلاح" تدريجيا حتى يتمكن الفلاحون من التكيف مع المرحلة الانتقالية، ولكن أصحاب الأرض رشوا رجال الشرطة لطردهم على الفور (4).  وقد احتشد الفلاحون ضد عمليات الطرد هذه، وكان المرء يعتقد أن الإسلاميين سوف يحتشدون أيضا للمساهمة في هذه الحركة. ومع ذلك، فقد ابتعدوا عنها، لأنهم يوافقون على سياسة الرئيس حسني مبارك ويعتبرون الإصلاح الناصري "شيوعيا". وهكذا، فإن الأمل في شن احتجاج سياسي قوي قد تم إجهاضه في مهده.

وييسّر السيناريو "المتطرف مقابل المعتدل" مرونة تكتيكية أكبر للأنظمة. ولم يعد من الضروري التلاعب علنا بالانتخابات. ويمكن اليوم القبول بمشاركة المزيد من أحزاب المعارضة. فالحزب المهيمن قادر على استيعاب الفوز بنسبة 70٪ فقط أو حتى 60٪ من الأصوات بدلا من 90٪ المعتادة. وقد ارتفعت أصوات في وسائل الإعلام لتعبر عن نفسها - وخاصة وسائل الإعلام المطبوعة - حيث القيود أقل حدة من ذي قبل، ولكن الخطوط الحمراء التي لا ينبغي تجاوزها تظل حاضرة. لم تعد هناك حاجة إلى إلقاء عدد كبير من الأفراد في السجن، أو لفترة طويلة - باستثناء "المتطرفين"، بطبيعة الحال. فالدولة تستعمل جميع الوسائل المتاحة وتخلق لنفسها وسائل إعلام خاصة وتؤسس جمعياتها غير الحكومية ومجتمعها المدني.

 إنه ترتيب جيد لملامح السيناريو وترشيد محدود للنظام السياسي. لم تتحول الدولة الاستبدادية من خلال الديمقراطية، بل زينت نفسها بملحقاتها. ويمكن للمرء، بدافع السخرية، أن يسمي ذلك “الاستبداد 2.0".

 وتؤثر العوامل الجيوسياسية على هذه التطورات. ويعود تاريخ المشاركة الجادة للمنطقة في السياسة العالمية إلى اتفاقية عام 1945 بين الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت والـملك السعودي عبد العزيز بن سعود بشأن إمدادات النفط. وبعد حرب عام 1967، اصطفت مصر والأردن للتوصل إلى حل يقوم على إنشاء دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، كما أن تحالف الولايات المتحدة مع مختلف الدول العربية، بما في ذلك سوريا، لاستعادة سيادة الكويت من العراق في عام 1991، وأخيرا، خلال التسعينيات، نسجل التشجيع الذي قُدم للدول العربية لتحرير حياتها السياسية وتطبيق الوصفات الليبرالية الجديدة على اقتصاداتها. 

ولكن منذ عام 2001، اختارت إدارة الرئيس جورج دبليو بوش قراءة جديدة للعلاقات مع المنطقة: إن أولوية الولايات المتحدة لن تكون الاستقرار بعد الآن، بل إقامة الديمقراطية وإذا لزم الأمر بالقوة. وقد أصاب هذا التخلي عن مبدأ قديم العديد من الأنظمة بالذعر، لكن الرأي العربي سرعان ما أدرك معناه: فهذه الحماسة الديمقراطية لم تكن سوى تمويها لبرنامج تدخلات يخدم المصلحة الوحيدة للولايات المتحدة وإسرائيل. وسرعان ما تعلمت الأنظمة المحلية فك رموز التصريحات المتناقضة من الغرب واستعادت ثقتها. فالواجهة الديمقراطية تكفي، شريطة أن تسهم في "الحرب على الإرهاب" وألا تعارض بقوة هيمنة الولايات المتحدة أو مصالح إسرائيل.

صناعة الإرهاب

 مارست هذه الحكومات ازدواجية الخطاب، وقالت لشعبها إنها ضد الغزو الأجنبي، وفي نفس الوقت ساعدت واشنطن على اعتقال الإسلاميين، وتعذيب المشتبه بهم المختطفين بشكل غير قانوني، واحتواء المقاومين لحملتها من أجل “إعادة تشكيل" المنطقة. 

إن تدويل القتال من ناحية، والدولة الأمنية التي تشرف عليها الولايات المتحدة من ناحية، والتشدد الجهادي الذي ينادي به تنظيم القاعدة كلها عوامل ساهمت في خفض وتبخيس العمل السياسي المحلي وإحباط الفاعلين على الأرض.  كما أن العولمة تقوض القوة الاقتصادية للدولة وتدفع المواطنين إلى الهجرة إلى الخارج لتأمين مستقبلهم المادي، والتحالف الدولي الذي خلقته "الحرب على الإرهاب" يدفع المسلحين إلى اقتحام ساحات قتال عالمية ووهمية ومن أجل الهروب من اليأس الذي يسود في المنزل، يهاجر الكثيرون إلى فرنسا للعمل... أو إلى العراق للقتال. وقد نفذت العديد من عمليات الجهاد المذهلة من طرف أشخاص قدموا من أماكن أخرى، غالبا من مناطق أفلتت نسبيا من الصراعات، مثل المغرب.

 إن الإحباط الاجتماعي يؤدي إلى نوعين من عدم التسييس: الانسحاب والتطرف. والمثال الجزائري مُعبِّر جدا: أولا، كانت "جبهة الإنقاذ الإسلامية"، مع رغبتها في إصلاح الدولة. ثم الجماعة الإسلامية المسلحة التي سعت إلى الإطاحة بها؛ ثم جاء من هو أكثر تطرفا عندما تحولت الجماعة السلفية للدعوة والقتال إلى تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، الذي "أعلن عن تكفير الدولة ". أما أولئك الذين لا يستطيعون الهجرة فهم يتصرفون بهذه الطريقة على الفور وهم يزعمون أنهم أعضاء في منظمة عالمية حتى لو كانت الروابط معها ضعيفة وأملهم كبير في أن يصدقهم الناس، وهذا ما يسمح لتنظيم القاعدة بالتواجد في كل مكان، لأن أي شخص يمكنه تمثيله والتحدث باسمه وعلى العكس من ذلك، يمكن الاشتباه في أن أي مسلم غاضب أصبح إرهابيا. وهكذا فإن "الحرب على الإرهاب" تخترق كل الأحياء في المدينة.

وهنا، يجب أن نميز بين الدعاية والواقع. ومن المؤكد أن هناك أشخاصا خطرين في العالم مستعدين للقتل والتعرض للقتل؛ بعضهم مدفوع بالأيديولوجيات الإسلامية. ولكن "الحرب على الإرهاب" ولدت صناعة حقيقية من الإرهاب، مما أثار مخاوف مرعبة غير واقعية على الإطلاق.  وفقا لمنظمة الشرطة الأوروبية يوروبول، في عام 2006 كان هناك خمسمائة عملية إرهابية في أوروبا، منها واحدة فقط يمكن أن تنسب إلى الإسلاميين وهي عملية فاشلة (5). في تجربة أجريت مؤخرا في الولايات المتحدة، تمكن أمن نظام النقل من خداع يقظة أفراد أمن المطار بقنابل مزيفة ست مرات من أصل عشرة - ثلاث مرات من أصل أربع في لوس أنجلوس (6). ومع ذلك، لم يحدث أي هجوم إرهابي واحد في هذا البلد منذ عام 2001. ولو كانت هناك بالفعل مئات الخلايا الجهادية النائمة، ومستعدة للهجوم، لكان الأمر معروفا.

وخارج مناطق القتال، يظل الإرهاب الإسلامي "بالتجزئة" نادرا للغاية. وفي مناطق القتال هذه، كان الغزو الأجنبي هو العامل الذي أشعل شرارة تكتيكات المقاومة غير المسبوقة وأفرز أنواع المنظمات بما في ذلك الخلايا أو التي تقلد تنظيم «القاعدة». إن صرف الأموال وتجهيز الأسلحة وكل أنواع القمع في العالم لا يمكن أن يوقف الانتحاري الحازم. وتوجد تهديدات حقيقية بعيدا عن مناطق القتال، ولكن أجهزة الاستخبارات والشرطة يمكن أن تثبت نجاحها في مكافحتها وقد فعلت. والخلاصة أنه ينبغي أن يكون الهدف هو تجريم الإرهاب، وليس تسييس "الجهاد".

ومع ذلك، فإن صناعة الإرهاب جزء لا يتجزأ من العلاقة مع الغرب. تتدفق الأموال من المؤسسات الغربية على معاهد "التفكير "، فضلا عن الدعم السياسي والظهور الإعلامي لجميع الذين يساعدون في المنطقة على تضخيم حكاية “الحرب على الإرهاب". ورغم كل هذا فإن الأمن لا يتعزز، ولكن الخوف يتزايد كما تزداد آليات الرقابة التي تديم الأنظمة الاستبدادية. لقد حل الخوف من الإرهاب عن حق محل الأعذار الوطنية التي كانت تستخدم في السابق لتأجيل التحول الديمقراطي إلى أجل غير مسمى. 

ولا شك أن الديمقراطية في أزمة في أماكن أخرى من العالم لأنها لم تف بوعودها (7). في هذه المنطقة، يتم تبخيسها حتى قبل أن توجد بل إن الكلمة نفسها فقدت مصداقيتها. عند الرأي العام العربي، أصبحت "الديمقراطية" رمزا مكروها لنفاق الأنظمة القمعية، وبرنامج المحافظين الجدد لتنفيذ الهجمات الاستباقية، والتدخل الأجنبي بشكل عام. وقد أصاب هذا التشويه المنظمات غير الحكومية. وقد أصبح بعضها أجهزة تجارية منفصلة عن الواقع المحلي. كما تحول مستقبل ورؤية مديريها نحو الغرب الذي يدعمهم؛ وقد حل النجاح الشخصي والوظيفي محل النضال الحقيقي. وعندما يقومون بعمل جيد، مثل مركز كارتر، الذي أرسل مندوبين لملاحظة انتخابات يناير 2006 في فلسطين، فإن تشخيصهم يتجاهل "المجتمع الدولي" بكل بساطة والدليل هو أنه فرض العقوبات لأن غالبية الناخبين اختاروا التصويت لصالح حركة حماس الإسلامية، الأمر الذي أدى إلى المأساة الحالية: مليون وخمسمائة ألف فلسطيني يعيشون تحت الحصار ويتضورون جوعا في قطاع غزة.

 

مقاومة شجاعة ولكن منقسمة

 ضئيلة هي آمال إرساء الديمقراطية. ويبدو أن أطراف التغيير التقليديون (المناضلون النقابيون أو السياسيون والطلاب) أضعف من أي وقت مضى. ولا تزال الأطراف الفاعلة الجديدة - الأقليات الإقليمية أو اللغوية، والصحفيون، والمثقفون المستقلون - تكافح من أجل توحيد صفوفها وتخفيف قبضة سياسة استبدادية راسخة منذ زمن بعيد.

 ولا يمكننا التنبؤ بأدوات التغيير التي ستنبثق يوما ما من المقاومات الجانبية المتكاثرة. وفي مصر وباكستان، يقاوم القضاة والمحامون بشجاعة عملية الهجوم على استقلال القضاء. في المغرب والجزائر، يناضل الصحفيون من أجل حرية الصحافة. في جميع أنحاء العالم الإسلامي، يبتدع الفقهاء الشباب روابط جديدة بين الإسلام والديمقراطية والتحديث.

 إن الدولة الاستبدادية تعرف كيف تستوعب التغيير وتحول مساره، ولكنها ليست آلة مثالية وكاملة لا يمكن اختراقها. كما أن المساحات التي حرصت الدولة على فتحها من أجل مناوراتها هي أيضا مجالات عمل سياسي حقيقية. وستكون هناك اختراقات ويمكن أن ننتظر ما هو غير متوقع. لقد حدثت غالبية التحولات الديمقراطية التي لوحظت في العالم منذ بداية القرن الحادي والعشرين في بلدان استبدادية "هجينة" (8).

 وللمساهمة في التغيير، من الضروري "استنبات " الرسالة التقدمية، وتنشيط الشعور بوجود هدف مشترك، يشمل الأمة والعقيدة الإسلامية، ولكن ليس مقتصرا عليهما وكذلك تقديم رؤية تعالج الاحتياجات الفورية للناس مع إشراكهم في مشاريع أوسع للسلام والديمقراطية.  إن مساعدة الولايات المتحدة وأوروبا سوف تلقى ترحيبا بالامتنان، ولكن إذا كان الغرب جادا في تعزيز الديمقراطية، فلابد وأن يبدأ بمعالجة المخاوف المحلية بجدية. إن الحديث عن "الديمقراطية" لا طائل منه طالما أن هذا الخطاب لا يتحرر من المخططات الجيوسياسية الكبرى ولا يحبذ التعاون مع الحركات التقدمية على الأرض.

فالناس بحاجة إلى أفاق مفتوحة أمامهم.  هذا هو طموحهم الكبير. وعلى هذا الأساس يجب على التقدميين أن ينخرطوا. وأيا كانت اللغة المستخدمة لوصف ذلك، فهذه هي الطريقة التي سيبنى بها النظام السياسي الديمقراطي سواء من حيث شكله أو من حيث مضمونه.



(1) La notion de «vague de démocratisation» apparaît pour la première fois dans Samuel P. Huntington, The Third Wave: Democratization in the Late Twentieth Century, University of Oklahoma Press, Norman, 1991.

(2) Cf. Guillermo O’Donnell et Philippe C. Schmitter, Transitions from Authoritarian Rule: Tentative Conclusions About Uncertain Democracies, The Johns Hopkins University Press, Baltimore, 1986.

(3) Cf. Shana Cohen, Searching for a Different Future: The Rise of a Global Middle Class in Morocco, Duke University Press, Durham, 2004.

(4) Lire Beshir Sakr et Phanjof Tarcir, « La lutte toujours recommencée des paysans égyptiens », Le Monde diplomatique, octobre 2007.

(5) « 500 Terror attacks in EU in 2006 – but only 1 by Islamists », Der Spiegel, Hambourg, 11 avril 2007.

(6) Thomas Frank, « Most fake bombs missed by screeners », USA Today, McLean (Virginie), 17 octobre 2007.

(7) Sur la régression démocratique, cf. Larry Diamond, « The democratic rollback: The resurgence of the predatory state », Foreign Affairs, New York, mars-avril 2008.

(8) Cf. Steven Levitsky et Lucan Way, « The rise of competitive authoritarianism », Journal of Democracy, The Johns Hopkins University Press, Baltimore, vol. XIII, n° 2, avril 2002.

القومية والإسلامية

عودة نحو المستقبل في العالم العربي

أغسطس 2009

اكتسحت العالم العربي منذ الحرب العالمية الثانية موجتان متعاقبتان وهما القومية والإسلام السياسي. وبصرف النظر عن الاختلافات القائمة بين هذين التيارين، فإنهما يمتحان معا من نفس المصادر المتمثلة في الرغبة في الاستقلال ورفض التدخلات الأجنبية والتوق إلى تنمية أكثر إنصافا وعدلا. بيد أن هذه الأهداف لم تتحقق. والسؤال: هل سيسمح ظهور قوة ثالثة بالخروج من النفق المسدود؟

يعيش العالم العربي تحت وطأة الرجة الاقتصادية العالمية إلى جانب أزمة ظلت لعقود في طور السكون وهي أزمة الشرعية. والحال أن لا أحد سواء من الفاعلين أصحاب النيات الحسنة أو الحكام الذين يقيمون حكمهم على العنف والبطش تمكن من حل هذه الأزمة التي يمكن تبينها من خلال الكولونيالية الجديدة أو عملية دمقرطة ناقصة أو صراع ثقافي وديني. وقد تجلت أزمة الشرعية في شكل مجموعة من التفاوتات يمكن القول إنها تشكل هوة سحيقة تفصل بين الحكام والمحكومين، والعلمانيين والأصوليين الدينين، والفئات الفقيرة والنخب. وقد تؤدي هذه الأزمة في مناخ من الجمود الاقتصادي السائد إلى وقوع مجموعة من الانفجارات الخطيرة التي لا يمكن لأي كان أن يتوقعها.

وإن نحن أردنا تفادي هذا الأفق المظلم، علينا أن نستخلص العبر والدروس من تاريخنا الخاص فلقد مرت علينا فترات زاهية من البطولات اتحدت فيها كلمتنا وحالفنا فيها النجاح، وكل ذلك باسم "القومية العربية"، وهو مصطلح ميز- بل وأذكى عزيمة- مجموعة من الحركات والفاعلين الذين أحدثوا في المنطقة تغييرات كبرى. ولا يمكن الاستهانة بالعمل الجبار المتمثل في القضاء على الاستعمار، والفضل في ذلك للقومية العربية التي ربحت تلك المعركة وساهمت في مد الجسور بين الدول الناشئة بعد الاستعمار داخل ما يسمى بـ “العالم الثالث".

ومن الطبيعي أن هذه الحركة كغيرها من الحركات الإصلاحية لم تكن تتصف بالكمال، فقد انحرفت عن مسارها وطالها الكثير من الفساد، ولكنها وفرت للشعوب المكافحة من أجل تقرير مصيرها أفقا وحدويا ومستقبلا واعدا بمنأى عن المصالح الفردية والعقدية والوطنية، ضمن مشروع جمع بينها في إطار عمل جماعي موحد. وهذه الرؤية الوحدوية، بل الكونية، لم يعد لها وجود اليوم، مع أن عناصرها ما زالت تسكن مخيلتنا، وليس أدل على ذلك من المظاهرات التي تنظم لدعم القضية الفلسطينية، من قبيل تلك التي نظمت خلال صراع دجنبر 2008 - يناير 2009 في قطاع غزة. ورغم المحاولات الجاهدة التي تقوم بها الحكومات الغربية وضغوطاتها على الدول "الصديقة" بالمنطقة، سعيا لإذكاء الصراع بين مختلف الشعوب، فإن الطوائف الدينية والعلمانية والشيعية والسنية والعربية و"الفارسية"، من بلدان المغرب والخليج تعمد دوما إلى لم صفوفها كاشفة عن دعم لا محدود للفلسطينيين.

ومن قبيل المفارقة أن هذا التوجه الوحدوي يعبر عن نفسه أيضا في دعم بعض أشكال الأصولية، بدءا من تيارات المتصوفة وغلاة المتدينين، وانتهاء بالسلفية الوهابية، وهي تيارات تثير خوف الغرب والعلمانيين العرب، غير أنها تجسد البحث عن المعنى والرغبة في انبعاث أمة موحدة. ولا عجب أن حلت الأمة المؤمنة أي جماعة المؤمنين محل الأمة العربية الكبرى في المتخيل السياسي، وأن التيار الإسلامي قد نزع من يد القومية العربية راية المقاومة، فهذه الأخيرة عرفت العديد من الانتكاسات، علاوة على أن الإيمان الإسلامي ظل حاضرا بقوة في مجتمعاتنا طوال التاريخ. وهذان التياران هما مع ذلك متداخلان مترابطان أشد ما يكون الترابط، أكان ذلك في صيغة تكامل أو تنافر وتطاحن.

نبوءة صادرة عن مؤسس البعث

كانت القومية العربية تتوق وهي في أوجها إلى أن تصبح قومية شاملة جامعة. فالصراع من أجل التخلص من الاستعمار باسم الوطنية، كان لزاما أن يفضي إلى نوع من الوحدة بين الأقطار وصولا إلى القومية التي ستسمح بمواجهة بعض القضايا من قبيل القضية الفلسطينية أو قضية التبعية الاقتصادية للغرب. وقد اتبعت القومية العربية مسارا متقلبا، فهي قد بلغت مداها سنة 1956 عندما أفلحت مصر بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا من إحباط محاولة إنجلترا وفرنسا وإسرائيل متحدين وضع اليد على قناة السويس؛ وهي عرفت نكوصا ملحوظا بعد حرب الستة أيام في يونيو 1967، بيد أنها انبعثت من رمادها سنة 1973 مع حرب أكتوبر ضد إسرائيل والحظر النفطي.

غير أن مختلف حركات التحرير انتهى بها الأمر إلى أن تنكفئ حول مشروع وطني بحت داخل القطر الواحد، لتنكمش على نفسها في شكل دول يقودها الحزب الوحيد أو "زعيم مدى الحياة". ومع ذلك، فرغم الصراعات المحتدمة بين الحكومات العربية لبسط هيمنتها على المنطقة، فلقد ظل حاضرا في المستوى الشعبي نوع من التطلع إلى أمة عربية تتجاوز الأقطار المعزولة، يجمع بينها تراث إسلامي مشترك.

وألفى التيار الإسلامي الصاعد نفسه مجبرا على تقبل بل وتبني مواقف شقيقه القومي العلماني وتلقي بعض الدروس منه، فحزب الله الشيعي لم يكن ليلقى النجاح في لبنان لو لم يعمد، من بين أمور أخرى، إلى التعالي على الانتماءات العقدية، مقدما نفسه كمدافع أمين عن الاستقلال الوطني. ومن الناحية التاريخية، فإن القومية العربية والتيارات الإسلامية تتقاسمان العديد من المبادئ، من قبيل السعي إلى إقامة وعي جماعي موحد والرغبة في إحياء اللغة والثقافة العربية، لتنضاف إليهما بعد الحرب العالمية الثانية معاداة الإمبريالية.

ففي العشرينات من القرن الماضي، قاد متمردو الريف بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي حملة قومية إسلامية وظفوا فيها الشريعة كسلاح إيديولوجي لمحاربة المستعمر. وفي سنة 1952، استولى "الضباط الأحرار" على الحكم بقيادة جمال عبد الناصر بدعم من الإخوان المسلمين. ولم تتردد "الجبهة الوطنية للتحرير الوطني" في الجزائر في استعمال بعض المصطلحات من قبيل الجهاد والمجاهدين في خطابها الموجه إلى سكان البوادي. ويمكن القول أيضا إن تحالفا جمع سنة 1973 بين القومية العربية ممثلة بمصر والملكيات الإسلامية المحافظة بقيادة العربية السعودية لفرض الحظر على البترول.

كما أن حزب البعث استعمل مرارا وتكرارا مفهوم الأمة للدلالة على الأمة العربية. وقد سبق لمشيل عفلق مؤسس القومية العربية وأحد المناضلين العلمانيين، أن أدرك أن "العلاقة بين الإسلام والعروبة ليست كعلاقة أي دين بأي قومية". وهذه النبوءة تأتي بعد قوله: "سيأتي يوم سيجد فيه القوميون أنفسهم مدافعين وحيدين عن الإسلام، وعليهم أن يبعثوا فيه معنى خاصا، إذا هم أرادوا أن يظل للأمة العربية سبب وجيه للبقاء" (1) (انظر الإطار المقابل).

تحققت نبوءة عفلق، ولكن في الاتجاه المعاكس، فالإسلاميون هم الذين أصبحوا المدافعين الوحيدين عن القومية، إذ لا يخفى على أي كان أن يلحظ اليوم كيف أن الإسلاميين تملكوا بعض العناصر من خطاب القومية مقدمين أنفسهم كتيار يقف في وجه الهيمنة الغربية ويسعى إلى تكريس الاستقلالية الثقافية والوطنية.

ومن سخرية الأقدار أن الغرب والحكومات العربية الرجعية عملت طوال عقود على تضخيم الخلافات القائمة بين القومية والإسلامية واللعب عليها عن طريق تشجيع التيارات الإسلامية المحافظة، مما يدل على أن العلاقة بين الإسلامية و"الهيمنة الغربية" ليست "خالصة" وخطية كما يظن البعض، أتعلق الأمر بالإخوان المسلمين بمصر الذين وظفتهم المخابرات البريطانية ضد عبد الناصر؛ أم بخلفهم في فلسطين أي حماس التي كانت تحظى في السابق بدعم إسرائيل للتصدي لمنظمة التحرير الفلسطينية؛ أم بـ"العرب الأفغان" الذين حاربوا لصالح الولايات المتحدة الأمريكية" ضد "الشيوعية الملحدة". فالإسلاميون لم يجدوا إذن غضاضة في أن يتحالفوا مرات عديدة مع قوات أجنبية تسعى إلى بسط نفوذها في المنطقة، وأن يحصلوا على دعمها وأموالها.

ويشكل الانتصار في أفغانستان وانسحاب القوات السوفياتية من هذا البلد التجسيد الأمثل لشبح القومية العربية المتلاشية في تحولها إلى وحدة إسلامية. فالإسلاميون بإمكانهم أن يحتموا بقوة الإلهام الديني مقابل الضعف الذي ينخر القومية التقليدية، بيد أنه يصعب عليهم أن يقدموا إنجازهم هذا كمثال يحتذى به. ألم يجنوا هم أيضا الثمار الدانية من تحالفهم مع الغرب؟ والدليل على ذلك هذه الشهادة التي أدلى بها عميل سابق لوكالة الاستخبارات الأمريكية خلال الحرب الباردة حول "السر الدفين الوسخ" لواشنطن. ففي تلك الفترة، "كان الإخوان [المسلمون] حليفا في الظل، وسلاحا سريا موجها ضد –وهل بالإمكان أن نتصور عدوا آخر؟ - الشيوعية". وكنا نقول لأنفسنا "إذا قبل الله أن يحارب بجانبنا، فسيكون ذلك أمرا جيدا" (2). والأمر نفسه بالنسبة إلى الإسلاميين: "إذا قبلت أمريكا أن تحارب بجانبنا، فسيكون ذلك أمرا جيدا". وفي الواقع، فإن "السر الدفين الوسخ" للإسلاميين والقوميين العلمانيين معا يتمثل في أن لا أحد في السياسة "طاهر" وبمأمن من التواطؤ مع القوات الأجنبية تواطؤا قائما على المصلحة.

يجب علينا أن ندير الظهر لعملية الرقص القاتل هاته القائمة على تبادل الاتهامات، فهي في نهاية المطاف ستنقلب ضدنا وضد الغرب. فهي قد شوهت ونسفت من الأساس شرعية حركات تحرر قومية كبرى بالجزائر ومصر؛ وحولت الإسلام إلى مذهب للتفرقة، عاملة على خلق هوة فاصلة بين العلمانيين والإسلاميين، وبين منطقتنا وباقي مناطق العالم. وهي أيضا أججت خطابا وممارسة للتطرف المسلح اللذين انقلبا ضد الغرب، كما انقلب كائن فرانكنشتاين على خالقه.

وإن آخر تجسيد لهذه الإستراتيجية يتمثل في تحويل الصراعات اللاهوتية والاجتماعية بين السنة والشيعة إلى شرخ جيوسياسي يفصل بين العالم العربي وإيران. وهذه الخطة التي سعت كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية في عهد المحافظين الجدد إلى تحقيقها على أرض الواقع خدمة لمصالحهما على المدى القريب، لا تخلو من صفاقة وقحة، خاصة وأننا نعرف أن هذين البلدين كانا يقفان سابقا بجانب طهران ضد القومية العربية، وفي الستينات والسبعينات كانت إيران القوة الوحيدة التي تحظى بكرم وأريحية هذين البلدين، لتأتي الثورة الإسلامية لتجعل منها "العدو الأول". ومع ذلك، فإن الاجتياح الأمريكي للعراق سنة 2003 هو الذي أطاح بأقوى معاقل القومية العربية، مانحا بذلك إيران فرصة تقوية نفوذها وموقفها في المنطقة.

مهما يكن، فهذا التوتر القائم بين السنة والشيعة وبين العرب و"الفرس" الذي تغذيه مثل هذه الخطط المبيتة، ليس من صنع الغرب، وإنما هو يعود بجذوره إلى الحقب الأولى من تاريخ الفتوحات الإسلامية. ففي جزء من المتخيل الإسلامي تختفي الرغبة في بعث قومية سنية، هي نوع من السلفية المذهبية التي تجمع بين طهارة الإسلام والقومية العربية، كل ذلك في مواجهة شيعة متزندقة وبلاد فارس توسعية. وهذا التوجه الخطير يجد تعبيره الأوضح في أشكال العنف الديني التي يشهدها العراق وآسيا الوسطى، موقعة من طرف تنظيمات مختلفة تنسب نفسها للقاعدة.

والحال أن هذه الإستراتيجية التي ينهجها كل من الغرب والحكومات العربية الرجعية لا تقوم على أساس منطقي. فهي تستخدم في مواجهة إيران التي تعد إحدى الدول القليلة التي استفادت من التدخل الأمريكي في العراق سنة 2003، وهو تدخل ساعد على خلق الاستقرار في هذه الدولة التي بإمكانها المساهمة في إعادة السلام إلى أفغانستان. كما أن هذه الإستراتيجية تسعى إلى الإيهام بأن حماس –وهي منظمة وليدة الطائفة السنية للإخوان المسلمين- هي كائن شيعي خلقته طهران في الخفاء. كما أنها تدفع من جديد بعض القوى في واشنطن وحلفائها الإسرائيليين والعرب إلى اللعب بالنار واستخدام بعض المجموعات السنية الجهادية من لبنان في العراق.

ومن الأكيد أن الصراع بين السنة والشيعة سيقضي على النزوع إلى الوحدة الإسلامية، مثلما سبق أن طوح التركيز على المصالح القطرية الضيقة بنزعة القومية العربية. ويبدو أن العديد من الأنظمة والشعوب قد وقفت في وجه هذه الإستراتيجية. وبغض النظر عن المخاوف التي تستشعرها الدول العربية، فإنها شددت على أن تتم تسوية المشكلة النووية الإيرانية في سياقها الإقليمي، على أن يتم أيضا طرح الأسلحة النووية الإسرائيلية على طاولة المفاوضات. ومنذ سنوات عديدة، والشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، أيا كانت توجهاتها المذهبية، ما تنفك تعبر عن دعمها لحزب الله وحماس، لا لأنهما من الشيعة أو السنة، بل لأنهما صمدا في وجه الاعتداءات الإسرائيلية، هكذا رأينا شيعة يساندون قائد حماس إسماعيل هنية، ورأينا أيضا سنيين يلوحون بصور حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله.

ففي هذه اللحظات، يمكننا أن نلمس قوة التطلع إلى وحدة عربية وإسلامية، وحدة بإمكانها أن توفر الكرامة والعدل والاستقلال الحقيقي. وإذا كنا نرفض فكرة أن الحركات الإسلامية هي الكفيلة بتحقيق الحلم القومي، علما منا أنها غالبا ما شوهته ووجهته توجيها خطيرا، فعلينا في المقابل أن نقبل فكرة أن هذه الحركات مدت ذلك الحلم بنسغ المقاومة والطاقة الجماعية الفوارة، كما أنها أبانت عن فعالية كبرى وهي تجعل من نفسها المعبر الأمين عن هذا الشعور الشعبي. يبدو إذن أن التيارات الجديدة للمقاومة التي يقودها الإسلاميون في الأغلب الأعم تساهم، ربما رغما عنها، في انبعاث القومية العربية.

وإلى جانب القومية التقليدية ما بعد الكولونيالية المتجمدة في قبضة أنظمة سلطوية قديمة، وأشكال المقاومة شبه القومية التي تعبر عن نفسها من خلال الحركات الإسلامية، يوجد نوع آخر من القومية عبر الوطنية، وهي علمانية التوجه، وإن كانت تعلن انتماءها إلى الهوية العربية الإسلامية معتزة بتلاقحها وثقافات العالم ولغاته. وهذا النوع من الوعي الذي يطبع متخيل جزء كبير من شبابنا، ينعكس في وسائل الاتصال الدولية الحديثة (الجزيرة انترنيت، فايسبوك، الخ.)، وفي الشبكات التي تربط بين فئات المهاجرين وبلدانهم الأصلية، وفي الأشكال الثقافية واللغوية المفتوحة غير المقعدة التي تسمح بها تلك الوسائل. والخطاب نفسه قد تغير، فلم تعد الإحالة تتم فقط إلى حقوق الفلسطينيين أو العرب، بل إلى مبادئ القانون الدولي، ما يدل على نوع من التوجه الكوني، كما عاينا ذلك خلال مظاهرات التضامن مع غزة.

وهذه "القومية الثالثة" الناشئة لا تربطها أية علاقة بالحكومات والأنظمة، ولا تتوفر على أي برنامج سياسي رغم أنها تعلن انتماءها إلى الوعي الوحدوي القومي الإسلامي، كما أنها تدين السلطوية المحلية والفساد، وتصبو إلى إقامة الديمقراطية ودولة الحق والقانون، رافضة رفضا قاطعا كل تدخل عسكري أجنبي. وهي تدافع باعتزاز عن الهوية العربية والإسلامية، داعية إلى الحداثة الفكرية والتنوع الثقافي. وهي أيضا لا تخفي انخراطها في النضال من أجل الاستقلال والعدالة في العالم العربي الإسلامي، خاصة في إطار تضامنها مع القضية الفلسطينية، كما أنها واعية بإنجازات الحركات السياسية الغربية والعربية وبإخفاقاتها. أمعنى ذلك أن نقول وداعا لقومية الآباء والأئمة؟

ربما لم يحن بعد أوان الإجابة على هذا السؤال، فهذه "القومية الثالثة" ما زالت تفتقر إلى الفعالية، وتسعى إلى نوع من الانسجام السياسي وأشكال من التنظيم للملمة صفوفها، كما أنها تجد صعوبة كبرى في إسماع صوتها المغيب داخل ضجيج المواجهة بين اللغة الخشبية للدولة وخطابات الوعظ والإرشاد الإسلامية، سيما وأن شعوب المنطقة عرفت الكثير من النكسات –بدءا من هزيمة 1967، مرورا باحتلال العراق، وانتهاء بالمحاولة الأخيرة لتأجيج المواجهة بين السنة والشيعة- إلى حد أنها استبطنت شعورا بالعجز.

تفضي هذه الوضعية المسدودة في مجتمعاتنا إلى طلاق "على الطريقة الإيطالية" بين ثلاثة أطراف لا تتبادل الحديث وإنما تكتفي بالعيش تحت سقف واحد: الدولة وأتباعها، والقوى العلمانية والتقدمية، والتيارات الإسلامية. بيد أن هناك عنصرا جديدا أتت به الأزمة الحالية، وهو عنصر يثير البلبلة وعدم الاستقرار وإن كان يحمل معه العديد من التطورات غير المسبوقة. ففي مواجهة تردي الأوضاع الاجتماعية، لا يملك الإسلاميون أي برنامج اقتصادي فعال يقترحونه، ما عدا تطبيق الشريعة، وهو برنامج يمكن أن يكون ناجعا إن هو ساهم في القضاء على الجريمة والفساد، وفي فرض النظام وإقرار الأمن داخل وسط صعب. غير أن مفهوم الإسلاميين للعدالة الاجتماعية ينتمي إلى مجال الفعل الخيري وليس السياسي، إذ يتعلق الأمر بتخفيف العبء عن الفقراء عن طريق الصدقة، عوض تقليص الفقر عن طريق فرض تغييرات بنيوية. والحركات الإسلامية نفسها تشكل بالنسبة إلى الأغنياء المحافظين مجالا خيريا، فهؤلاء يفضلون إدانة ابتعاد الدول العلمانية عن الدين عوض أن يرفعوا التحدي المتمثل في ضروب الظلم اللصيقة ببنيات الملكية الخاصة نفسها، وهم أيضا ينظرون إلى أشكال المعارضة الاجتماعية على أنها نوع من الفتنة (3) التي هي عند المسلمين مرادف للفوضى والصراع.

الإخوان المسلمون في مواجهة الحركة الاجتماعية

نذكر في هذا السياق أنه عندما انتفض عشرات الآلاف من الفلاحين المصريين ضد التراجع عن الإصلاح الزراعي الذي قام به عبد الناصر، وضد إعادة أراضيهم لكبار الملاكين، فإن الإخوان المسلمين انحازوا لسياسة الخوصصة التي انتهجتها الدولة (4)، كما أن الإضرابات والمظاهرات العمالية التي شهدتها منطقة النيل في ربيع 2008 كان وراءها مناضلون تقدميون (5).

إضافة إلى ذلك، فإن النضالات من أجل الرفع من الأجور واحترام الأحكام الدولية المتعلقة بحقوق الشخص لاقت ترحيبا كبيرا في أوساط الفئات الشعبية، ليجد الإخوان المسلون أنفسهم مضطرين إلى الاصطفاف خلف هذه المطالب ولكن بشكل ملتو، وهنا يجب التنصيص على أنه علاوة على أن هذه النضالات لم يكن وراءها الإخوان المسلمون، فإن المطالب التي رفعها المتظاهرون بعيدة كل البعد عن برنامج الإخوان، فمثل هذه الأعمال النضالية –تمرد الجوع، المظاهرات من أجل الأجور في قفصة (تونس) وسيدي إفني (المغرب)-كلها كانت بقيادة قوى اليسار، أما الإسلاميون فقد ظلوا على الهامش.

ويبدو أن الإخوان المسلمين لا يميلون إلى الانخراط في مثل هذه الأعمال، لا سيما وأن لا دراية لهم بكيفية قيادتها وبخطابها ومحاورها. ومع ذلك لا يمكن إنكار أهميتهم المتزايدة، لأنهم يتيحون للتقدميين إمكانات غير مسبوقة للدفع إلى الأمام بأفكارهم حول العدالة والحقوق الاجتماعية (6). ويبقى لزاما عدم الإفراط في التفاؤل، فهذه التحركات النضالية تظل نادرة ومحلية معزولة، فرغم أن القضايا التي تثيرها تتطلب حلولا في المستوى الوطني أو الجهوي، فإن المتظاهرين لا يكونون أحيانا على علم بما يقع على بضعة كيلومترات من منازلهم...

وتعمد الأنظمة من جانبها إلى استعمال كل الوسائل لمنع هذه الحركات من التوحد والتحالف مع الإسلاميين. ولا تتردد في اللجوء إلى القمع، كما أنها تنصب نفسها مدافعة عن بعض الموضوعات الأثيرة لدى الإسلاميين من قبيل امتداح الهوية الثقافية والوطنية، زاعمة الدفاع عن القيم العربية أو الإسلامية المخصوصة عن طريق إدانة خطابات حقوق الشخص والحقوق الاجتماعية بذريعة أنها عناصر غربية دخيلة. ومن شأن هذا الموقف أن يعمق التفرقة بين الإسلاميين والتقدميين دافعا بهؤلاء إلى السقوط في "كمين هوياتي".

وتشكل وضعية المرأة خير مثال على ذلك، فمبدأ عمل المرأة قد أصبح إلى حد كبير حقا مكتسبا، ومع ذلك ما زالت هناك بعض أشكال الرفض لكل ما يتعلق بجسد المرأة وبالدور الذي تضطلع به داخل الأسرة. إن التقدميين وهم يدافعون عن حقوق المرأة يجدون أنفسهم بين نارين، خطاب الوعظ الإسلامي والخطاب القومي حول الشرف. وعليهم أيضا أن يدفعوا عن أنفسهم تهمة التنكر للهوية الثقافية، وفي المقابل، يتم النظر إلى مسألة الحفاظ على البنيات السلطوية، أكانت مرتبطة بالدولة أو الدين، على أنها مقاومة ثقافية للتغريب. وتمثل هذه السياسة الهوياتية الجوهرانية موضوعة حاضرة بقوة في منطقتنا، كما أنها تشكل في الآن نفسه مأساة حقيقية.

وفي باكستان، تبنى الطالبان بحماس كبير مفهوم الصراع الطبقي، وفي وادي سوات، طالبوا بالإصلاح الزراعي، فبعض الملاكين الأغنياء من النخبة شبه الفيودالية الباكستانية تم استغلالهم أولا كدافعي ضرائب محافظين ليتم فيما بعد تجريدهم من أراضيهم وإجبارهم على مغادرة البلد. وقد سمحت هذه الإستراتيجية لطالبان، حسب أحد المسؤولين الباكستانيين: بـ"أن يقدموا من الوعود أكثر مما يفرضون من الموانع حول الموسيقى والتمدرس. وهم أيضا يعدون الناس بإقرار العدالة الإسلامية، وبإقامة حكومة فعالة، وإعادة التوزيع الاقتصادي" (7). إننا أمام خطاب واضح موجه إلى التقدميين العلمانيين وإلى الأنظمة "المعتدلة" ومفاده أنه إذا لم تسارعوا بجدية إلى حل المشاكل الملحة من قبيل الفساد والفقر والتفاوتات، فستجدون أنفسكم بعيدا وراء الإسلاميين الذين يعملون على حل تلك المشاكل.

لا أحد إذن يمكنه تجاهل الاختلافات الموجودة بين التقدميين والإسلاميين. صحيح أن كليهما يمكنه أن يرغب بصدق في إقامة "الديمقراطية"، ولكن من المحتمل أن تأتي لحظة تختلف فيها رؤيتهما جذريا حول الطريقة التي يجب بها إنشاء دولة الحق والقانون الديمقراطية والمحافظة عليها. فالتقدميون يرغبون في إقامة السيادة الشعبية المحدودة بحدود القانون، وفق المعايير القانونية والسياسية المعترف بها دوليا، أما الإسلاميون، فإنهم يريدون منح السيادة المطلقة لإيديولوجيا دينية خاصة تقوم على تأويل خاص للنصوص المقدسة، رغم أنه يوجد وسط الإسلاميين نقاش حول هذه المسألة، فهناك من بينهم من أصبح يميل تدريجيا إلى القول بالسيادة الشعبية كما هو حال الإخوان المسلمين بالأردن، أو حزب العدالة والتنمية بالمغرب.

ومع ذلك، توجد خاصة في سياق الأزمة الاقتصادية العالمية إمكانات لإقامة تحالفات حقيقية يمكن أن يستفيد منها التياران معا، وقد تعود بالنفع أيضا على شعوب المنطقة. ففي المستوى المحلي، ستنظم مظاهرات للتنديد بالبطالة ونقص المواد الغذائية والموارد وارتفاع الأسعار. وسيعمد السكان إلى المطالبة بالشفافية، حيث سيطالبون حكامهم بالحساب ويطالبون أيضا بعدم التهاون في محاربة الفساد. وفي المستوى الجهوي والدولي، ستتكاثر الحركات من أجل دعم فلسطين، والتصدي لتدخل القوى الأجنبية، وإقامة نظام اقتصادي عادل وتطبيق القانون الدولي...

الاقتراع العام وحقوق الشخص

إن المبادئ التي ستسمح بالقيام بعمل موحد وفعال تشبه المبادئ التي استنهضت حركاتنا القومية التاريخية، من توق إلى الاستقلال الوطني، والتزام بالتعاون الجهوي، وانخراط كامل في القضايا الدولية، وتصور لنظام يدافع عن الحرية السياسية ودولة الحق والقانون من أجل الجميع، وأرضية تستهدف تحسين المستوى الاقتصادي والاجتماعي لساكنتنا، وجهود للاستجابة لتطلعات مختلف المجموعات الإثنية والدينية. ولتحقيق هذه الأهداف، على التقدميين أن يربحوا معركة الزعامة والنفوذ، وأن يبينوا أن بناء الديمقراطية واحترام الحقوق الإنسانية هما أداتان ضروريتان وفعالتان لتفعيل تلك المبادئ.

ولقد عاينا خلال الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة كيف أن هاتين الأداتين ساهمتا في خدمة القضية الفلسطينية، فحماس تتمتع بالمصداقية لأنها تحارب الفساد، وتقف باستماتة في وجه العدوان الإسرائيلي، ولكن أيضا لأنها تستمد الشرعية من صناديق الاقتراع. وفي المقابل، توجد إسرائيل في وضعية ضعف في مجال حقوق الشخص والمعايير القانونية والسياسية والإثنية المعترف بها دوليا. كما أن الأفعال غير القانونية التي تقترفها قد تجعلها تفقد امتياز الإفلات من العقاب الذي يمنحه لها "المجتمع الدولي" منذ عدة عقود. ومع المعلومات والتحليلات والمعارف التاريخية التي نتوفر عليها في عهد الجزيرة والإنترنيت والنضالية العالمية، دون أن ننسى المؤرخين الإسرائيليين الذي يشتغلون في جو من الحرية الذي يجب أن نستلهمه نحن، فإن عدد الذين يدركون أن ما رأوه في غزة في 2008 و2009 ما هو سوى جزء صغير مما لم يستطيعوا رؤيته في 1947-1948، هو في تزايد مستمر.

ووجه المفارقة أن أكبر التحديات المطروحة على القوميين كالتدخلات الأجنبية في العراق ولبنان، قد خلقت فضاءات للتعبئة والوحدة والتعدد والديمقراطية يجب أن نعمل على استثمارها. وقد سبق أن رأينا في التاريخ تجارب شبيهة بهذه الأوتوبيا، فقد كان لزاما على أوروبا أن تمر بسلسلة كانت تبدو لا نهائية من الصراعات الدموية والدينية والوطنية كي تنخرط في مسلسل الوحدة، ولكن دون أن تتخلى مع ذلك عن استقلاليتها الوطنية وعن الاختلافات الثقافية بين شعوبها.



(1) « A la mémoire du Prophète arabe », conférence donnée à Damas le 1er avril 1943, Albaath.online.fr.

(2) Brendan O’Neill, « Today’s “islamic fascists” were yesterday’s friends », par Brendan O’Neill, Globalresearch.ca, 31 août 2006.

(3) Ce mot signifie en arabe « division », « sédition ».

(4) Lire Beshir Sakr et Phanjof Tarcir, « La lutte toujours recommencée des paysans égyptiens », Le Monde diplomatique, octobre 2007.

(5) Lire Joel Beinin, « L’Égypte des ventres vides », Le Monde diplomatique, mai 2008.

(6) Cf. The Arabic Network for Human Rights Information, « Egypt: Woman detained for promoting general strike on Facebook », Le Caire, 24 avril 2008; et Laura Kasinof, « Egyptians use Facebook to deter censorship », Middle East Times, 29 avril 2008.

(7) Jane Perlez et Pir Zubair Shah, « Taliban exploit class rifts in Pakistan », The New York Times, 17 avril 2009.

المثقفون العرب بين الدولة والتطرف الديني

سبتمبر 2010

يظن المرء أن هناك صراعا في بعض البلاد العربية، لكن الأمر هو بالأحرى لعبة مستمرة من التحالفات، اتفاق ضمني بين ثلاث قوى لا تتساوى في قدراتها، فالأصوليون الذين سُمح لهم ببسط نفوذهم على المجتمع قد تغاضوا عن إدراج السيطرة على السلطة السياسية ضمن أولوياتهم، أما المثقفون العلمانيون الذين تحميهم السلطة من تهديد الأصوليين فقد صمتوا عن التجاوزات الشمولية للسلطة، وركزوا نضالهم حول قضايا غير خلافية، في حين تستمر الدولة السلطوية، التي يسايرها المثقفون ويقبلها المتدينون، وتدوم.

خلال القرنين الماضيين، ظل العلماء يرتابون باستمرار من الأشكال العصرية للتعبير الثقافي، دافعهم إلى ذلك خوفهم من أن تسمح هذه الأشكال للناس بإدراك حياتهم والعالم من خلال آليات منفلتة من الدين. لكن، ورغم احتجاجاتهم غير المجدية، فإن أغلبية الممارسات الفنية والثقافية كانت تحظى بالقبول. وفي الحقيقة، فبعض الإنتاجات (الفن المعاصر على سبيل المثال)، كانت تحمل بصمة الغرب ولا تهم سوى «الأفندية» (البورجوازيون المستغربون).

كان هذا التسامح الحذر يندرج في إطار فكر ديني (الكلام) لا يُختزل الدين في سياقه في مجرد الشريعة، بل يحتضن أيضاً نوعاً من التعددية. لقد كانت عدة ممارسات أدبية وفنية دنيوية إلى هذا الحد أو ذاك (الشعر، الخط، الفنون التشكيلية، الموسيقى) تُعتبر موافقة للدين، حتى وهي تزعزع المواضعات. وتشكل أعمال تتسم بتنوع رائع وإبداعية جد جريئة، جزءاً لا يتجزأ من تاريخنا.

كانت عظمة الإسلام تتمثل بالضبط في قدرته على استيعاب عدد لا يحصى من التأثيرات الثقافية. وكان العالم الإسلامي يحمي، يدرس ويطور التقاليد الكبرى للأدب والفلسفة الكلاسيكيين. وبدل إحراق الكتب، كان (هذا العالم) حضنا لتشييد المكتبات للحفاظ عليها. كما ظل، على امتداد مدة طويلة، ملاذا للوثائق المؤسِّسة لما سيُسمى لاحقا الغرب. لقد استوعب العالم الإسلامي كون هذا الإرث يجسد التراث الفكري للإنسانية جمعاء.

ومع بزوغ الحركات الأصولية، رأى معيار جديد النور، معيار يوسَم عادة ب «السلفي»، تعتمد مرجعية تسميته على الرؤية الضيقة للأرثوذكسية الدينية التي يقوم عليها. إن كون هذا المعيار إيديولوجية مضمرة، ذلك أنه نادراً ما يتم التنصيص عليه في القوانين أو من طرف الإدارة، معطى لا ينقص إطلاقاً من نفوذه، بل العكس هو الصحيح. هذا المعيار لا يمتح سطوته من السلطة السياسية، بل من المكانة المحورية التي أصبحت القراءة المتشددة للإسلام تحتلها في رحم الهوية العربية: وهو يجسد المقاومة ضد الاستغراب والاستعمار الجديد.

قبل عشريات من الزمن، كان هذا النمط من التدين يصطدم بالقومية العربية الزاحفة. أما الآن، فحتى الأصوات العلمانية المعتدلة تتردد في نقده علانية: إنها تخشى، بفعل انزوائها داخل فخ الهوية، من أن تبدو كعدوة للأصالة العربية من وجهة نظر النظام والمحافظين، بل وحتى عموم الناس.

ومن بين الأمثلة الواضحة في هذا السياق، ثمة تلك المجموعة من الشباب المغاربة التي أرادت، في صيف سنة 2009، إفطار رمضان علانية خلال نزهة في حديقة عمومية. فبالإضافة إلى النقمة المتوقعة من طرف رجال الدين، أثارت المبادرة غضب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، أهم حزب اشتراكي ديمقراطي في البلاد ، الذي طالب بمعاقبة المفطرين. ولقد تم التعبير عن هذا «التدين» اليساري بلغة مستعارة من الوطنية، ذلك أن نزهة الإفطار اعتُبِرت شاتمة للثقافة المغربية وخطيرة على التوافق الهوياتي. وبموجب ذلك، قررت السلطات متابعة الشبان المعنيين بتهمة «المس بالنظام العام»، وهي تهمة نادراً ما يتم اللجوء إليها، بحيث وُظِّف القانون الوضعي، في هذه الواقعة، كحجاب لحماية النظام الديني. إنه لم يكن بمقدور الطبقة السياسية قبول أدنى خرق للتعاليم القرآنية، وذلك ما فعلته بإجماع مكوناتها.

هكذا، فالفضاء العمومي يتعرض تدريجيا للتأطير من قبل معيار ثقافي صارم، مُكوَّن من واجبات ومحظورات منبثقة من قراءة ضيقة للنصوص الدينية. إن الدين ينزع، بعد أن أصبح عنصراً محورياً في الإيديولوجية السائدة، إلى أن يُختزل في قراءته السلفية، وإلى إقرار منطق تغدو في سياقه الثقافة كافرة بعد أن كانت تعتبر، إلى حدود الآن، دنيوية. لقد حلت محل التصور المنفتح للإسلام المقترن بالثقافة، حلت قراءة خاملة للشريعة تحظر الثقافة. ومن ثمة، فقد تعرضت نقط العبور بين الحقل الديني المقدس والفضاء الثقافي الدنيوي للانسداد.

ثقافة معولمة دنيوية

ومع ذلك، فديناميكية إقرار السلفية لا تمنع الناس من تذوق وفرة من الإنتاجات الثقافية المبثوثة عبر التلفزيون، الفيديو، أنترنيت أو الأدب الشعبي. ومن المغري جداً حصر هذا الجيشان في الغرب والعولمة، ومن ثمة تحقيره عبر اعتباره «أجنبيا»، لكن هذا الموقف ينم عن جهل للمهارة التي تملك العرب بواسطتها مجموع مكونات الإنتاج الثقافي المعاصر.

إننا نعاين، على مستوى النخب، شغفاً متزايداً بالفن المعاصر، تشجعه منظومة الرعاية التي تساهم فيها مؤسسات غربية ومنظمات غير حكومية ومَلَكيات الخليج. ومن جهته، فالشعب ليس في مأمن من تدفق إنتاجات الشركات متعددة الجنسيات، العاملة في مجال الترفيه والإعلام. وينضاف إلى انتشار المنتوجات الأمريكية الشمالية المنمَّطة، التوزيعُ الجماهيري للإنتاجات الثقافية المحلية (سواء تعلق الأمر بالقناتين الإخباريتين الجزيرة والعربية، أو بالمسلسلات التلفزيونية والأدب الشعبي، وخاصة كتب الإرشادات العملية أو الحياة الغرامية)، مثلما ينضاف انفجار الإبداع الموسيقي والفني الذي أصبح ممكنا بفضل الأنترنيت، والذي تتابعه الشبيبات العربية بحماسة. ويُرافَق تلاقح من هذا القبيل، حتما، بصنف تجاري و«مهرجاني» من الثقافة العربية الحديثة، وهذه ظاهرة غير مقتصرة على العالم العربي بمفرده، بل هي على ذلك، علما أن مداها يَدِين بالكثير لرجال الأعمال والمنعشين والوسطاء المحليين.

وتعدم أغلبية هذه الممارسات الثقافية كل مضمون ديني، كما أنها مشبعة حد التخمة بالتأثيرات المعولَمة (ليس فقط الغربية، بل كذلك الهندية والأمريكية اللاتينية، الخ)، ولذا، فهي تنطوي على طابع دنيوي تماما. ورغم تنامي الإسلام السياسي، فإن محاولات أسلمة الفن والثقافة تظل غير مثمرة نسبيا، بيد أن الفنانين والمنتجين، بفعل خضوعهم، في ذات الآن لإكراهات الثقافة المعولَمة ولنقيضها المعيار الديني، بيد أنهم يضعون في الواجهة صفتهم ك «مسلمين» رغم أن أعمالهم لا تمت بصلة للدين، بل تساهم أحيانا في دَنْيَوة المجتمعات. إنهم يؤكدون إذن، وهم يُغَلبون هذا الانتماء، هويتهم أساسا وليس ممارستهم الدينية.

ثمة شكل من انفصام الشخصية نفذ إلى المنطقة: الثقافة الدنيوية تُستهلك في الحياة الخاصة أو في فضاءات شبه عمومية مجزأة بحذر، أما في الحياة العمومية، فالناس ينشغلون بإبراز هويتهم المُسْلمة للعيان عن طريق عدم ارتياد قاعات السينما مثلا، وبالذهاب إلى المسجد، وترك اللحية تنمو أو وضع الحجاب. وتتطور هاتين القارتين المكونتين للحياة الثقافية بشكل متواز، لكن المعيار الديني يبقى مهيمنا في الفضاء العمومي.
ومن الخطأ تفسير هذه الظاهرة بواسطة التقسيم الاجتماعي بين النخب والفئات الشعبية. في القرن الماضي، كان بإمكان البورجوازية المستغرِبة، بكل تأكيد، التمتع بمجموع مكونات الثقافة الدنيوية، بينما تظل العامة سجينة ثقافة تقليدية يهيمن عليها الإسلام. ورغم أن هذه القطيعة لم تُقبر بعد، فتطورات التربية ومحاربة الأمية التي عرفتها العشرون سنة الأخيرة، مرفوقة بالتزايد الهائل لوسائل الاتصال (وفي مقدمتها التلفزيون والأنترنيت)، قد غيرت الواقع. أما استعمال لغات أخرى والاغتراف من ثقافات مغايرة، فلم يعودا امتيازا للميسورين بمفردهم.

لقد بزغت تشكيلة متنوعة أكثر فأكثر من الممارسات الثقافية. الشباب يقرأون الروايات، يشاهدون الأفلام، يطلعون على الوثائق، ينصتون للموسيقى ويتصفحون المدونات، وهم كثيرا ما يستعملون، للقيام بهذا، لغات غير اللغة العربية. إنهم لا يستهلكون منتوجات فحسب، بل يُتقنون (وأحيانا ينشرون بنفسهم) ممارسات ثقافية موسومة جوهريا بتأثيرات الشرق، الغرب والجنوب، وبالطبع الشمال.

لن يوَلّد تنوع الثقافة الجماهيرية، ميكانيكيا، مسلسلا للدنيوة والدمقرطة، فالأمر يتعلق بالأحرى بتفريق بين مقرونين. وبالفعل، فنفس الشخص سيقرأ اليوم رواية غرامية، وغدا منشورا دينيا. سيتناول وجبة الغذاء متابعا قناة "إقرأ" الفضائية المخصصة للإسلام، ثم ينهي عشاءه أمام أحد كليبات "روتانا" التي هي بمثابة "إم تي في" بالعربي (1).

خطايا سرية في الحياة الخاصة

السلفيون تأقلموا تماما مع هذه الوسائل الجديدة من قبيل الأنترنيت، وهم يعتقدون توظيفها لصالحهم. ومن جهة نظر المتدينين، فاستهلاك الإنتاجات الثقافية الدنيوية يجب أن يظل خطيئة سرية، أما بالنسبة للسلطات، فمن الواجب أن ينحصر هذا الاستهلاك في الترفيه، وألا تتمخض عنه تبعات اجتماعية أو سياسية. كما أنه من المفروض على كل فرد احترام المعيار السلفي، حتى إذا كان ينزاح عنه في حياته الخاصة. وبشكل مفارق، فالخرق اليومي والفردي للتعاليم القرآنية في إطار الترفيه داخل البيت، لا يؤدي إلا لتدعيم هيمنة الديني، ذلك أن الخرق شخصي، بينما المعيار السلفي عمومي. وينتج عن توفيق هذين المعطيين نمط من السلطة الإيديولوجية «اللينة» التي هي أنجح من الرقابة البيروقراطية.

اللغة من جهتها لا تفلت من انفصام الشخصية هذا، علما أنها تشكل مرتكز الثقافة. لقد بوأ العلماء دائما، وطوال التاريخ، النص المكتوب درجة التعبير الأسمى عن العقل الإنساني، والحال أن النصوص باللغة العربية تبقي جد هامشية كميا في مجال الأدب، ذلك أن المثقف العربي لا يكتب باللغة الشفوية لشعبه. وثمة اتفاق بين القوميين والأصوليين حول نقطة بعينها، إذ لا يعترفون جميعا بغير العربية الكلاسيكية، لغة القرآن (الفصحى)، كوسيلة للتعبير ثقافيا. إن الفصحى تلحم، القومية العربية بالنسبة للأولين، وتجسد صلة وصل العالم الاسلامي (الأمة) بالنسبة للأخيرين، ومن الجلي أن هذا التصور لا يأخذ بعين الاعتبار الاختلافات العميقة بين العربية الفصحى، التي لا تُتداول إلا نادرا خارج المدارس القرآنية، وبين عربية الشارع، بل وحتى العربية "المنمطة" المستعملة في وسائل الإعلام، الخطب العمومية والإنتاجات التخييلية الشعبية. وبالنسبة للكتاب، فالمهمة تبدو شاقة بالأحرى، ويكمن السب في أن الرواية جنس أدبي مشبوه نظرا لكونه يسبر أغوار الأسئلة الوجودية بطريقة انتهاكية مزدوجة، وذلك بفعل تحررها من الدين وجعلها اللغة العربية تتجاوز حدود الفصحى، وهو ما يشكل قطيعة تنتصب حاجزا في وجه بزوغ تعبير شعبي.

نفس الصعوبة نصادفها في المجال القانوني. تحدد كل دولة نظرتها الذاتية للشرعية و «التطابق مع الإسلام»، وذلك عن طريق اعتماد مبادئ قانونية عصرية ضمن تشريعها في كثير من الأحيان، مع استرار اعتبار الشريعة المصدر الأساس لهذا التشريع الوضعي. وإلى حدود الآن، فإن هذه الازدواجية تفرمل إمكانيات التطور السياسي. لكن فرض القاعدة الدينية، في هذا المجال أيضا، لا يحدد بالضرورة الممارسات الفعلية للمحاكم أو الإدارة.

إن الدولة العربية المعاصرة، وهي توافق على إضفاء الطابع السلفي على حقل الأخلاق والسلوك (الضغط من أجل ارتداء الحجاب، إغلاق قاعات السينما، الخ)، إنها توطد بهذا سياستها القائمة على التحالف المضمر مع العلماء، هؤلاء الحراس الرسميين للإسلام الذين يحرصون على نيل إنعامات النظام أكثر مما يحرصون على إصلاح هذا الأخير. ولا تتردد الدولة في التلاؤم مع التيارات الإسلامية «المعتدلة» التي يقوم برنامجها أساسا، على تعبئة المُنظرين الدينيين (وليس الشرطة) من أجل فرض التقوى في أوساط الناس. أما مجال عمل الدولة، فإنه ينحصر في حظر أكثر أحكام الشريعة قسوة (رجم الزاني والزانية على سبيل المثال)، مما يسمح لها بتنصيب نفسها، أمام المعتدلين في الداخل والملاحظين الغربيين، سدا منيعا ضد الأسلمة التامة للمجتمع، ومع ذلك فمسلكها لهذا المنحى يجعلها تُصدق على أولوية السلفية كمعيار اجتماعي.

وفي الوقت نفسه، يبحث المثقفون المتشبثون بالإصلاحات الديمقراطية عن حماية الدولة لهم من العلماء أو الأصوليين. وبالمقابل، نراهم يوافقون، أحيانا، على مساندة قادة الأنظمة. إن الحكومة، من وجهة نظرهم، وحتى وهي جد سلطوية، تمثل شرا أقل ضررا من الإسلاموية، وذلك نظرا لصيانتها لبعض فضاءات الاستقلالية الثقافية، ومحافظتها على الأمل المبهم في اللبلرة مستقبلا. هكذا، وخلال سنوات 1990، ساند مثقفون علمانيون الدولة الجزائرية في مواجهتها مع الإسلاميين. وفي مصر، استفاد الكاتب سيد القِمني من حماية الدولة بعد تعرضه للتهديد بالقتل، بل إنه حصل على وسام في يونيو 2009.

ورغم عدم استعداد أي واحد من الفاعلين المتواجهين المعنيين للإقرار بالأمر، فإن الدولة تتلاءم أحيانا مع قوى إسلامية تُعتبر أقل تهديدا من الإخوان المسلمين مثلا. بل إنها تذهب إلى حد ضمان أقلية مستقرة لهذه القوى في البرلمان بصفتها معارضة. ويسمح تفاهم من هذا القبيل للدولة بقمع الجهاديين، ومعهم، في الوقت نفسه، الإسلاميين الراغبين في قلب النظام السياسي من الداخل.

إن التوازن الهش بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين يشرع للسلطة أبواب مواصلة سياستها القمعية، تلك السياسة المتميزة دائما بالعنف، لكن المحدِّدة بدقة أكبر للضحايا المستهدَفين اليوم، والتوازن هذا يساعد، أيضا، على فرض المعيار السلفي.

خيانة المثقفين

يستطيع هذا الوضع الكابث أن يولد، في أوساط المثقفين، أشكالا مختلفة من الاستسلام السياسي. هكذا، فنحن نعاين «فرار الأدمغة» الواقعي أو الافتراضي. العديد من الفنانين والكتاب استقروا في الخارج، أو أصبحت يوجهون إنتاجاتهم لجمهور بعيد عن بلدانهم. والواحد منهم يقدم نفسه على أساس أنه «عربي» أو «مسلم» وليس مصريا أو تونسيا، أو يعلن انتسابه لهوية عناصرها المؤسسة شبيهة بالعناصر المؤسسة للسلفية، مثلما تجده يكتب بالفصحى ويعتبر أن صفة «عربي» مرادفة لصفة «مسلم». إن هؤلاء جميعا أعضاء في شتات جغرافي أو إيديولوجي، ومن ثمة فتواصلهم مع بلدانهم وشعوبهم صار مفتقدا، خاصة وهم يفضلون تعريف أنفسهم بنعت «العرب» المرحي على النوع. والحال أن كل ما يمكنه إثارة مخاوف الحاكمين يتبدد لما يعتنق المثقفون قضايا غير خلافية مثل فلسطين أو العراق، بدل من الانخراط في ساحة الحياة السياسية الوطنية.

المثقفون في العالم العربي والإسلامي لا يبالون بالنزاعات الاجتماعية في بلدانهم، كما أنهم يفضلون الذوبان في رحم الوحدة المجردة للمجموعة الدولية، وهم يقدمون على الأمرين معا نظراً، بالأحرى، لكون الاقتصاديات المحلية لا تمثل سوى قسط يسير من الدعم اللازم للفنانين والكتاب. ومن جانبه، فغياب سياسة وطنية لدعم الإبداع يغذي الفردانية وعزوف المنتجين الثقافيين عن السياسة، بل يصبح هؤلاء يسعون خلف الشهرة في الخارج والحصول على الموارد المالية منه. وعلى مستوى آخر، فكثير من رعاة الأدب والفن يفضلون الحقل الثقافي «المعقم» قصد إصلاح المجتمع. وهذه هي حالة «مؤسسة فورد»، «مؤسسة سوروس» أو محسني الملَكيات البترولية. هكذا، تعرض الأروقة الفنية وواجهات المتاجر الفاخرة في الخليج عدداً لا يحصى من الأعمال التي يُفترض فيها تجسيد الثقافة العربية الإسلامية، غير أنها تظل أعمالا منفصلة عن المجتمع بفعل تمويلها الغربي.

وفي حقل الأدب، تشجع عدة جوائز، تُنافس بعضها البعض، «أفضل» إنجازات الثقافة العربية، ومنها جائزة الماجدي بن ظاهر للأدب العربي التي تمنحها مؤسسة «بلو متروبوليس» (لبنان)، أو الجائزة الدولية للرواية العربية الممنوحة من طرف «مؤسسة جائزة بوكر» لندن بدعم من “مؤسسة الإمارات".

ليس ثمة ما يستوجب اللوم جراء مشاركة فنانين من منطقتنا، بلا تحفظ، في اللعبة الثقافية العالمية، بل إنه أمر يمكن أن يمثل تطوراً. لكن الفنان «العربي»، حين يحظى عمله بالتثمين دوليا، يكون مهدداً بالانفصام عن شعب بلاده، وبالتالي بفقدان كل دور تحريري.

لقد أفسحت الأنترنيت المجال واسعا، بكل تأكيد، أمام فضاءات جديدة لإنتاج واستهلاك الأعمال الثقافية. لكنه، وإذا كانت الشبكة العنكبوتية تُضفي النجاعة على الحركات الرافضة الموجودة قبليا، فإنها لا تخلق في حد ذاتها وعيا سياسياً. أجل، بإمكانها توسيع مدى تعبئة ما، مثلما حدث في مصر (انتفاضة فايسبوك ضد الرئيس مبارك في ربيع 2008)، غير أنها عاجزة عن الحلول محل العمل الميداني الدؤوب الذي يستلزمه تنظيم الصراع.

الحاصل أن الجهاديين مبحرون جيدون ومبدعون في الأنترنيت، وهم لا يترددون في توظيف السخرية أو النشيد، مثلما لا يجدون حرجاً في اعتبار معتقداتهم الدينية متلائمة مع الاختراعات التكنولوجية، ربما بسبب التمييز الذي يقيمونه بين الصورة الجليلة للمفكر وصورة المثقف.

ومن جهة أخرى، فالأنترنيت تساهم في التوحد والتجزئة. إن مستعمليها يكونون، عموماً، مجموعات صغيرة متروية، تتواصل حصريا وأحياناً دون الكشف عن هوايات أعضائها عبر شاشات وسيطة، في إطار إنبيق ذي حركة دورية مسترسلة. ويسمح عدم الكشف عن الهوية للغاضبين بعرض راديكاليتهم دون تعريض أنفسهم لأية مواجهة مفتوحة مع الخصم وللعواقب المترتبة عن ذلك. إن المرء يستطيع، بواسطة الأنترنيت، السخرية من السلطة والهروب من العالم الواقعي في نفس الوقت.

عقب تنكرهم للدور الذي كانوا يضطلعون به (والذي لازالوا يضطلعون به بين الفينة والأخرى إلى حدود اليوم، مثلما هو الحال في إيران وتركيا، لم يبق الفنانون والمثقفون رأس حربة الحركات الاجتماعية، السياسية أو الثقافية. لقد صاروا يشبهون، أكثر فأكثر، فئة من جلساء الأمراء المعششين في حضن الدولة، أو في حضن عرابين أغنياء ونافذين. صورة الفنان المعارض تبخرت، تلك الصورة التي كان يجسدها، سابقا، الكاتب المصري صنع الله إبراهيم أو المجموعة الغنائية المغربية ناس الغيوان. ففي مصر مثلا، يتحمل الفنان التشكيلي الطلائعي فاروق حسني منصب وزير الثقافة الآن. وفي سوريا، عينت مترجمة جون جوني، حنان قصاب حسن، في سنة 2008، مندوبة عامة لتظاهرة دمشق عاصمة للثقافة العربية»، وهي تظاهرة مدعمة من طرف اليونسكو. وكيفما كانت أهمية أفكارهم حول الثقافة أو المجتمع، فإن بعض الفنانين، ومن بينهم، على سبيل المثال وائل شوقي (الذي شارك في معرض الإسكندرية المقام كل سنتين) أو هالة القوسي (الحائزة على جائزة أبراج كابيتال للأعمال الفنية الممنوحة دبي)، يظلون في منأى عن كل التزام سياسي.

كثرة المهرجانات

إن تفتيت وتجزئة عناصر ومعالم الثقافة العربية لها نتيجة طبيعية هي “مهرجنتها". ويوضح هذا النهج التجاري حماس النخب الثقافية للأعمال الفنية التي تتميز بطابع “الهوية العربية" - العلمانية والحديثة والمكتسبة بالضرورة في الغرب.

 ولكن هذا الاستشراق الجديد ليس مجرد بدعة غربية. وقد استغل العديد من رواد الأعمال العرب ذلك بحماس، مما زاد من انتشار المهرجانات والفعاليات المخصصة للفن "العربي الإسلامي" (التقليدي أو المعاصر).

 مع الأمل في غزو أسواق جديدة وتلبية أذواق الطبقات المتوسطة الغربية في المغرب العربي والشرق الأوسط. كما تشهد هذه النظرة الغريبة للثقافة المحلية على فك ارتباط الدول العربية، التي خصخصت الفن بنفس الطريقة التي خصخصت بها اقتصاداتها، ولكن دون التخلي عن رغبتها في التحكم والسيطرة.

 وقد خفضت الميزانيات العمومية المخصصة للثقافة أو أعيد توجيهها جزئيا لإنعاش السياحة، وهو أمر غير منطقي: فوزارة السياحة سعيدة بالانضمام إلى تمويل المهرجانات، التي يتمثل جدواها في تعزيز الصورة الحديثة والمضيافة   والاحتفالية للبلد المعني في الخارج.

 ولا ينبغي أن نتفاجأ أن تشمل هذه المهرجانات البنوك الخليجية وسلاسل الفنادق وشركات الطيران والمجموعات الإعلامية والمؤسسات الثقافية من بين مُحتضنيها ورُعاتها. إن مهرجانا مثل مهرجان بعلبك (لبنان) أو موازين (الرباط) ومهرجان فاس (الموسيقى الروحية) تصل بهذه الظاهرة إلى ذروتها. فهي لا توفر ذريعة للاحتفال والنزهة فحسب، بل تجتذب على مدى عدة أيام جمهورا كبيرا من جميع أنحاء العالم، ولا سيما من أوروبا والبلدان العربية. لكن المواهب الموسيقية والفنية التي تؤدي هناك ليس لها سوى علاقة هزيلة مع الممارسات الثقافية المحلية.

وهكذا، فإن مهرجان فاس المخصص ل "الموسيقى الروحية في العالم" يعزز بالتأكيد روح التسامح، ولكن مع آثار محدودة بسبب الطابع الرسمي جدا لكل “الكوريغرافيا". وتظل هذه المظاهرات، بمضمونها ذاته، عصية على حساسية السكان المحليين. وبمجرد أن تهدأ البهجة، تعود الحياة اليومية إلى مجراها دون تخفيف سيطرة الأنظمة الحاكمة على المجتمع.

ومع ذلك، فمن المحتمل أن يحبل تحديث الحركات الثقافية في العالم العربي يمكنه أن يكون بالخصوبة. فالفنانون المساهمون في سياقه يمتلكون رأسمالا رمزيا بقدرتهم توظيفه للدفع بعجلة التغيير إلى الأمام في بلدانهم. وبما أن التبعية للنظام القائم ليست الحل، فإن سبر فضاءات جديدة للاستقلالية الثقافية والتجريب بمقدوره فسح المجال أمام إعادة إحياء معارضة السلطات الاستبدادية التي تحكم الجزء الأكبر من العالم العربي.

ثمة معطى لا جدل حوله: لكي يشجع الفعل الفني والثقافي الدمقرطة السياسية والاجتماعية، فإنه من الأهمية بمكان معارضة المعيار السلفي في ميدانه، وذلك عن طريق اقتراح بديل يحظى بالمصداقية. وبعيداً عن اعتماد نموذج جاهز مسبقاً، فإنه من المهم الاغتراف من التقاليد العربية والإسلامية التي عدَّدت، طوال قرون، فضاءات الاستقلالية الثقافية. وسيُمثل هذا المعيار العمومي الجديد، المُكيَّف مع العالم ومع تقاليدنا، أحد أعمدة كل مشروع أصيل للدمقرطة. وليس من الممكن تشييد هذا المعيار على أساس إنكار التحدي السلفي، ولا على أسس الخضوع لشروطه.



(1) Lancée par le prince saoudien Al-Walid Ben Talal. Lire Yves Gonzalez Quijano, « Le clip vidéo, fenêtre sur la modernité arabe », Manière de voir, n° 111, « Mauvais genres », juin-juillet 2010.

(2) Allusion à la « révolte Facebook » contre le président Hosni Moubarak au printemps 2008.

تونس ومسار الريادة

الموجة الصادمة في العالم العربي

فبراير 2011

قال الأمين العام لجامعة الدول العربية في مؤتمر القمة الذي عقد في شرم الشيخ، مصر، في 19 يناير، "إن الروح العربية منهكة بسبب الفقر والبطالة". وهذا هو أحسن تلخيص لخشية حكومات المنطقة من أن تهدد الثورة التونسية أنظمتها

لقد سقط نظام استبدادي تحول إلى نظام كليبتوقراطي - نظام قائم على السرقة والفساد - مقترنا بالاستبداد القمعي. لقد احتكرت أسرة واحدة السلطة وخربت المجتمع التونسي. إن إحراق نفسه بالنار من طرف شاب يائس وهو حامل لشهادة الباكالوريا ويبع الخضر والفواكه على عربة مجرورة في الشارع، أطلق ثورة هزمت أحد أكثر الأنظمة استبدادية في العالم العربي. وهو منطقة تعج بالديكتاتوريات.

 هذه الانتفاضة البطولية لشعب عظيم أصبحت رمزا ونموذجا وقد استفادت هذه الثورة المفاجئة والفاقدة لقيادة سياسية حقيقية، من طابعها العفوي غير المنظم. ولو كانت منظمة لكان النظام قد سحقها على الأرجح.

 وقد دخل المتمردون، الذين لا يوحدهم سوى منطق الرفض لاستمرار ديكتاتورية الرئيس زين العابدين بن علي، عبر الإنترنت في نوع من التواصل لم يتمكن النظام من توقعه ولا استباقه في أقل من شهر، نجحت الثورة في الإطاحة بهذه الديكتاتورية التي جعلت تونس واحدة من أكثر البلدان انغلاقا وقمعا في شمال أفريقيا والشرق الأوسط لما يقرب من ربع قرن.

إن نقاط القوة في مثل هذه الانتفاضة هي الآن نقطة ضعفها الرئيسية: عدم وجود زعيم أو برنامج سياسي وغياب القدرة على تولي مسؤولية المجتمع بعد الإطاحة بالرئيس المكروه وقد تجنبت البلاد، التي تضم واحدا من أكثر الشعوب تعليما وعلمنة في العالم العربي، حتى الآن، أن يهيمن عليها الإسلاميون المتطرفون. وما يلوح في الأفق لا يتيح على ما يبدو الفرصة لهذا التيار لتولي السلطة عن طريق العنف. وفي وقت لاحق، إذا وافق بعض الإسلاميين (مثل أعضاء حركة النهضة) على الاحتكام إلى الأدوات الديمقراطية، سيكون من النافع دمجهم في النظام السياسي، وتهميش الإسلاميين المتطرفين بشكل أفضل. 

وينبع الشعور الواضح بعدم اليقين بعد سقوط زين العابدين بن علي وهروبه من غياب نخبة سياسية مستقلة قادرة على ضمان خلافة السلطة والانتقال إلى الحكم الديمقراطي، حيث لم يبق سوى بقايا النظام المخلوع والأحزاب السياسية الجنينية ونقابات العمال الفاقدة للزعامة، وإذا ساد الخوف من الفوضى والثقة في قدرة المجتمع على الإدارة الذاتية والواقعية السياسية، فقد تنشأ هياكل سياسية جديدة. وسيكون الشباب بمثابة الرصيد لهذا الـمجتمع يبحث عن الديمقراطية، التي تمكنت من التخلص من الديكتاتورية دون أن تعاني من خسائر بشرية فادحة.

عشية الانتخابات التأسيسية الأولى، هل سيعتمد القادة الجدد مرة أخرى على الخوف من تيار الإسلام السياسي لدفع جعل الحكومات الغربية تقبل تحديا للسيادة الشعبية؟ لقد تحرك الشارع وأصبح يخيف وسيخيف أصحاب السلطة الجدد. 

ومن أجل تجنب الانفجارات العنيفة على الأقل بقدر ما يكفي للحفاظ على بعض سلطة الرئيس المخلوع، يمكن للنظام الانتقالي أن يسعى إلى استتباب وضع قائم معين. ومن خلال إجراء الانتخابات في المستقبل القريب، فإنه سيغامر بتعزيز قوة النخب غير الشرعية، التي سوف تعيد تنظيم صفوفها لاغتصاب الحكم من جديد.

 إنه مخطط كلاسيكي. وقد شوهد ذلك في أوائل التسعينيات في بلغاريا ورومانيا، حيث اعتمد النظام القديم على النخب القديمة من أجل الانتعاش وهو يختفي وراء صورة جديدة. وأحداث أوكرانيا أكثر دلالة: إن القطيعة أكثر شدة (نظرا لظهور دولة جديدة)، ولكن الكوادر السياسية القديمة عادت إلى العمل بمجرد انحسار الاضطرابات. والخيط الناظم لكل هذه الحالات هو أن يحشد المواطنون قواهم ضد السلطات المنبوذة التي يهدئ سقوطها على الفور من قوة الضغط الشعبي. وهذه هي المشكلة المركزية التي تعرقل أي تحول يكون فيه المجتمع المدني غير منظم تنظيما جيدا.

ومع ذلك، فإن انتفاضة يناير في تونس تلهم أمل الشعوب العربية الأخرى لأن تجربة التحرر معدية، سواء في الجزائر أو مصر أو الأردن أو المغرب أو سوريا أو حتى فلسطين. وفي كل مكان، يئست الأجيال الجديدة، التي سحقتها النظم الاستبدادية، من تحرير نفسها. ولكن، لأنها كانت انتفاضة لا يمكن التنبؤ بها على وجه التحديد، لا يمكن استنساخ التجربة التونسية بحذافيرها في بقية العالم العربي. 

وفي تونس، كان الجيش منفصلا نسبيا عن أجهزة الاستخبارات والقمع والأمن، بما في ذلك الشرطة. وفي كثير من الأحيان، كانت هذه الأجهزة، باستثناء الحرس الرئاسي، تعرف كيف تتعامل مع الاحتجاجات المحدودة، وكيف توقف أعمال العصيان في مهدها. لكنهم لم يتعلموا كيف يكون التغلب على الثورات سيئة التنظيم والتي تمتد إلى عدة طبقات من الشعب.

 

التنازل عن بعض السلطة من أجل المقاومة

 إن الحال هنا تختلف عن الجزائر، حيث السلطة الاستبدادية سلطة جماعية - لا تتركز في يد شخص واحد - ولكنه مشابه للحالة المصرية حيث تنصب مشاعر الكراهية والاستياء على الرئيس، فإن الاستبداد التونسي كان هدفا سهلا للانتقام الشعبي.

وقد زاد تورط أسرة بن علي بأكملها تقريبا في الاستيلاء على خيرات البلاد من حدة هذه الظاهرة. إن طرد الديكتاتوريات المتوسعة أصعب من تلك التي تبرز وجها محددا للاستياء الشعبي، كما هو الحال مع شاه إيران أو سوهارتو في إندونيسيا، على سبيل المثال لا الحصر. ومن ناحية أخرى، تتمتع تحالفات النخبة بقاعدة أوسع من الديكتاتوريات الشخصية: فهي بالتالي أقل هشاشة. فالأنظمة الاستبدادية تكون أكثر مرونة عندما تتنازل عن جزء من السلطة للشعب، وقبل كل شيء، لمجموعات المصالح المختلفة. وبالمقارنة مع تونس، دفعت السلطتان المغربية والجزائرية إلى ظهور شبكات مصالح أكبر وأكثر تعقيدا مرتبطة بهما. وفي حالة الجزائر، فإن ريع النفط يغري جسما سياسيا مهتما مباشرة بالحفاظ على النظام.

كما كان للنظام التونسي خصوصية تحويل الاستحقاقات الانتخابية إلى استفتاءات سخيفة (99.27٪ من الأصوات في عام 1989، و99.91٪ في عام 1994، و99.45٪ في عام 1999، و94.49٪ في عام 2004، و89.62٪ في عام 2009)، مما لم يترك أي مجال للمعارضة. وبالمعنى الدقيق للكلمة، لم يكن المشهد السياسي موجودا أصلا. وهذا ليس هو الحال في مصر، حيث يظل النظام الانتخابي رغم أنه يخضع بالتأكيد لتزوير واسع النطاق، مجالا للتنافس والمواجهة. وعلاوة على ذلك، فإن الصحافة ليست مكممة كما كانت في تونس.

وفي الجزائر أيضا، حيث يتيح إيجار النفط تأجيل اندلاع الغضب الشعبي، على الأقل طالما ظلت النخبة العسكرية موحدة، وغير بارزة على الساحة السياسية وقادرا على استيعاب بعض الأطراف السياسية الفاعلة التي تقبل لعبة الدمج. كما أن نهاية الحرب الأهلية التي دامت أكثر من عقد من الزمان وأنهكت البلاد جعلتها غير راغبة في الانتفاض ضد نظام انتصر على تيار الإسلام السياسي المتطرف بعد سقوط مائة ألف قتيل. 

 ويبقى المغرب حيث لم يستهدف الاستياء الشعبي النظام الملكي مباشرة حتى الآن. ولكن الشباب المحبطين من غياب الآفاق، وبسبب اللعبة السياسية الـمُكبّلة ووجود جهاز أمني قسري، ومن خلال الشبكات الزبائنية الساحقة، يمكنهم أن يجدوا مبررات للثورة. مما قد يدفعهم للمغامرة بالتطرف، نظرا لتعقيد البلاد. والواقع أن الانقسامات العرقية أكثر حجما وعمقا، مع حالة انسجام أقل تقدما.

 

حركات حتمية لا يزال من الصعب تصورها

 وفي جميع هذه البلدان، يوجد نموذج لتنموي غير متكافئ إلى حد كبير، ويتميز بالمحسوبية في جهاز الدولة، والمراقبة الشديدة للسكان وغياب الانفتاح على مستوى المشهد السياسي، غالبا ما تكون الأنظمة قوية بسبب ضعف مجتمعها المدني. ولكن ظهور أدنى شرخ يكشف عيوبها ولذلك تستغله الحركات الاحتجاجية بسرعة فتصبح مهددة بالانهيار.

في الحالة التونسية، كان الطابع المنغلق لنظام غير شرعي هو الذي ساعد في نشأة الثورة الشعبية. كانت الثمرة ناضجة تنتظر السقوط! غير أن سلطة الرئيس بن علي التي اعتبرت واحدة من أقوى السلطات وأكثرها استقرارا في المنطقة. كانت تخفي اختلالات غير مرئية وما كان سيحدث لا يمكن تصوره.

وهناك نظم أخرى ليست بنفس القدر من الهشاشة. ومع ذلك، فإن طول عمرها يجعلها فريسة سهلة للحركات التي يصعب تخيلها اليوم، ولكنها تبدو في نهاية المطاف ذات نهاية حتمية مثل تلك التي جعلت النظام التونسي يرضخ ويجثو   على ركبتيه. إن السهولة التي استسلمت بها ديكتاتورية بن علي لاستفاقة الشباب تشهد على عجز الأجهزة القمعية عن التغلب على الحركات التي نشأت من العدم، وهي حقا حركات تبعث على التعجب والانبهار.

إن وجود الفوارق في التنمية بين مختلف مناطق البلاد كانت لصالح الثورة التونسية. وقد تم القيام باستثمارات كبيرة في المناطق الساحلية لتشجيع السياحة، ولكن السلطة تركت المناطق الداخلية تواجه مصيرها وحيدة 

وهنا على وجه التحديد نشأت الحركة التي جرفت النظام. وفي بلدان عربية أخرى، يوجد هذا التفاوت أيضا، بطبيعة الحال، ولكن بشكل مختلف. إن المجتمع الذي تحتكر نظامه السياسي مجموعة صغيرة جدا وبدون شرعية لا يمكن أن يتطور بعقلانية من دون استقلالية تكنوقراطية تتصرف على النمط الصيني لكن معظم الدول العربية تضحي بتقنيتها في سبيل الفساد والسلطوية. إن الشباب المنشغلين بتهريب السلع في الجزائر والمغرب يعانون من الإحباط وهم كثيرون وغالبا ما تكون لديه شواهد جامعية فيتسكعون في الطرقات وقد يلتحقون بجحافل الإسلام السياسي العنيف لأنهم ببساطة ضحايا نظام لا يترك لهم فرصة كبيرة للعيش الكريم

فإما أن يعبروا عن يأسهم كما هو الحال في مصر أو الجزائر (ولكن، إذا لم ينجحوا في زعزعة الجمود، ينتهي بهم المطاف بالموت ببطء)، أو أنهم يظلون في حالة الاستياء المكبوت (كما هو الحال في الأردن والمغرب). وفي كثير من الأحيان، ودون أن تدرك الأنظمة ذلك، فإنها تبني استقرارها على لامبالاة مجتمع لم يعد قادرا حتى على التمرد. وعندما ينفجر الغضب، يكون أكثر عمًى وعنفًا. وما دام يأس الشباب يخفق في التشبث بشيئ يمكنه أن يشعل فتيل الحريق فإن هذه الأنظمة تظل سالمة. لكن أدنى "حدث "، مثل إحراق شاب لنفسه، قد يكون كافيا للمجتمع بأسره للاصطفاف وراء الثورة، أولا وقبل كل شيء على الصعيدين المحلي والإقليمي، وإلى انهيار النظام في عار، بسرعة تستعصي على الفهم.

إن تأثير الثورة التونسية على بقية العالم العربي سيعتمد على قدرتها على إرساء الديمقراطية في البلاد. إذا تم تنظيم الديمقراطية، فمن المحتمل أن نرى انتشارها، وخاصة في المغرب الكبير. وسوف تزداد المطالب الشعبية مع المطالبة بالتعددية والمشاركة السياسية.  وإذا فشلت، فسوف تزداد الأنظمة الاستبدادية رسوخا وسيزداد يأس الشعوب: فربما تفضل معظم الأنظمة العربية الخيار الثاني، حتى لو أدى إلى الفوضى. ويمكننا أن نتخيل سيناريوهين: إما أن تصغي الأنظمة العربية لمطالب شعوبها وتبدأ في الانفتاح السياسي وإما ستسعى هذه الأنظمة العربية إلى الحفاظ على السلطة مهما كان الثمن.

 

الاصطدام المباشر، الانفتاح أو القمع

في الحالة الأولى، سوف يكون الطريق مليئا بالمخاطر. بعد عدة عقود من الإغلاق والقمع، يجب على الأنظمة العربية أن تتطور تدريجيا، لتجنب صدمة مباشرة يمكن أن تؤدي إلى الإطاحة بها. ونظرا لآمال السكان المحبطة، فإن الانفتاح الديمقراطي ينبغي أن يكون واضحا وصريحا بما يكفي لكيلا ينظر إليه الناس بصفته مجرد خدعة وينبغي أن يكون تدريجيا بما يكفي لعدم إغراق النظام السياسي في اضطرابات ثورية. ولكن التغيير التدريجي لا يمكن تحقيقه إلا بليونة ومساعدة نخبة سياسية لا تضحي بالاستقرار ولا بضرورة وإلحاحية التحول الديمقراطي. إن قدرة الأنظمة الموجودة على التماس مساعدة مثل هذه النخبة وإعطائها ما يكفي من القوة لتحقيق مهمتها المتمثلة في الانفتاح تترك المرء متوجسا.

ولا يزال هناك حل الانغلاق السياسي. وقد سعت الأنظمة الاستبدادية العربية، التي استخلصت الدرس من أحداث في تونس، إلى تحييد الأسباب المباشرة للثورة، ولا سيما من خلال مكافحة ارتفاع أسعار الضروريات الأساسية للمعيشة (الخبز والسكر واللحوم والبيض، إلخ). ثم بدأت تعمل على زيادة فعالية أجهزة الأمن والاستخبارات.

 يظهر المثال التونسي أن فشلا حدث في نظام الاتصالات، حيث كانت شبكة الإنترنت هي ملجأ المعارضين الذين تواصلوا عبر يوتيوب وتويتر وفيسبوك... كما عانى نظام القمع التونسي من ضعف التعاون بين مختلف مستوياته (الشرطة والمخابرات العامة والجيش). وبما أنها تستوحي عملها من النموذج الإيراني لسحق الحركات الاجتماعية، تتعلم الأنظمة العربية توقيف شبكة الإنترنت الوطنية ووضعها خارج الخدمة عند الحاجة. وفي الحالات القصوى، تقدم على ترحيل الصحفيين الأجانب أو وضعهم تحت الإقامة الجبرية. وعلى غرار الباسيج في إيران، تحاول هذه الأنظمة خنق الثورات الحضرية من خلال تقسيم الأحياء المختلفة ومراقبتها برؤوس الجسور الأمنية التي يمكن أن تتدخل محليا. وباختصار، في هذه الحالة، سنشهد "تحديثا" و"توسعا " لأجهزة إنفاذ القانون. ولكن هذه العلاجات لا تحمي من الأنواع الجديدة من النضال الجماعي التي قد تبدعها الحركات الاجتماعية في المستقبل. إن الحلول القمعية لن تنفع في أحسن الأحوال سوى على المدى القصير.

وفي حين حظيت "الحركة الخضراء" في إيران بتعاطف كبير من طرف في الغرب، لم يكن هذا هو الحال مع الانتفاضة التونسية. بل إنه أثار ردود فعل قصيرة النظر وغير ملائمة على الإطلاق. خاصة في فرنسا، البلد الذي ظل حتى النهاية داعما وفيّا لديكتاتورية الرئيس بن علي.  وقد دعمت عواصم غربية أخرى من بينها واشنطن المحتجين بالشفوي فقط وهذا يدل على أن الغرب لا يظهر حماسا كبيرا للديمقراطية في العالم العربي، على الرغم من بعض الخرجات الخطابية من حين إلى آخر ويمكن أن تكون الحركة التونسية فرصة لتغيير هذا السلوك، لا سيما من طرف باريس.

 وفي العالم العربي، الذي يرى أن التواطؤ مع الديكتاتوريات هو استمرار للاستعمار والإمبريالية بوسائل أخرى، ينظر إلى دعم الديمقراطية على العكس من ذلك على أنه ضمان لاحترام المجتمعات التي تقمعها الأنظمة غير الشرعية.

 وإذا استمر الغرب، خوفا من صعود التيارات الإسلامية المتطرفة أو بدافع الحرص على المصالح، في عدم مساعدة هذا النوع من المطالب الديمقراطية، فيمكنه على الأقل، أن يكتفي بالحياد الإيجابي



(1) Mouvement de renaissance culturel et politique qui apparaît à la fin du XIXe siècle. Il mêle volonté de réformer l’islam et de transformer la société.

Lire Anne-Laure Dupont, « Nahda, la renaissance arabe », Manière de voir, n° 106, « L’émancipation dans l’histoire », août-septembre 2009.

(2) « Hittiste » (de hitt, le mur en arabe) : chômeur adossé toute la journée à un mur.

(3) Les jeunes volontaires de l’Armée des pasdarans (corps des gardiens de la révolution islamique).

الربيع العربي: الأنظمة الملكية هل هي الهدف المقبل؟

يناير 2013

في الوقت الذي تشهد فيه تونس ومصر وليبيا واليمن انتقالا ديمقراطيا فوضويا، يشتد القتال في سوريا. بينما تتفاقم الاحتجاجات، وإن كانت غير ملفتة للغاية، في الأنظمة الملكية مثل المغرب والأردن ودول الخليج العربي.

ليس "الربيع العربي" حدثا، بل هو مسلسل. وفي الدول التي مضت بعيدا في درب التحرر السياسي، يغدو السؤال الأساس هو كالآتي: هل يمكن أن تتمأسس الديمقراطية؟ ورغم أن الإنجازات المتحققة تظل هشة، والعلاقات بين المجتمعات والدول تحكمها المواجهة، فالجواب هو "نعم"، مع بعض الحذر. ففي بعض الدول المعنية، نلاحظ استحداث مؤسسات من المفروض أن تصبح ديمقراطية.

وتصبح الآفاق واعدة أكثر في إفريقيا الشمالية. وغير خاف أن مأسسة الديمقراطية تفترض انتظام الحياة السياسية حول ثلاثة أقطاب تشكل أسس دولة الحق والقانون، وهي الانتخابات والبرلمان والدستور. وكلما كانت هذه الأقطاب أمتن وأبقى، ظلت الحكومات عموما بمأمن من الجماعات الراديكالية والقوى الرجعية وغاب شبح النكوص إلى أشكال الحكم السلطوية. وتتطلب الديمقراطيات التي تجعل من احترام القانون ونزاهة الانتخابات قيمتين ساميتين تناوب الأحزاب المتنافسة على الحكم.

وفي تونس وليبيا ومصر، يشق مسلسل المأسسة طريقه، وإن اعترضته صعوبات هنا وهناك (1). وفي هذه البلدان الثلاثة، نظمت انتخابات تشريعية في ظل تنافس وتعدد ما كان بالإمكان تصورهما في عهد النظام السابق. وفي تونس، تنكب الجمعية التأسيسية المنبثقة عن الانتخابات على صياغة الدستور. وتكتسي الأزمة في هذا البلد بعدين اثنين: موقف السلبية المتواصل تجاه أعمال العنف على يد السلفيين، والتي توقفت بعد الهجوم على السفارة الأمريكية؛ والتأخر الحاصل في إنجاز الإصلاحات الاقتصادية، وخاصة في المناطق الأكثر تضررا من الأزمة. ورغم التوترات الخطيرة أحيانا، والصراعات المحتدمة بين أطراف سياسية مختلفة المصالح، فلا أحد، ما عدا شرذمة قليلة، يضع موضع سؤال قواعد اللعبة الديمقراطية.

ويختلف الأمر في ليبيا حيث يعاني النظام السياسي الذي أعقب انهيار نظام معمر القذافي الأمرَّين لفرض سلطته أمام قوة الجماعات المسلحة (2). وشهدت الانتخابات الرئاسية بمصر فوز مرشح الإخوان المسلمين محمد مرسي. وكان أول عمل قام به رئيس الدولة الجديد منذ تسلمه منصبه تثبيت السلطة المدنية على الجيش عن طريق إقالة المارشال محمد حسين طنطاوي. وتمثل هذه الخطوة الأولى نحو إعادة رسم العلاقة بين المدنيين والعسكريين قطيعة مع تاريخ طويل من هيمنة العسكر على الدولة بمصر.

ويمكن القول إن معظم الفاعلين السياسيين، ما عدا بعض الجماعات الراديكالية كالسلفيين، أو فئات ممن يشدهم الحنين إلى شكل الحكم الفردي السلطوي السابق، تكيفوا مع المعطيات الجديدة وأصبحوا يتحركون وفقها. وهذا لا يعني أن الديمقراطيات المنخرطة في مسلسل المأسسة ستصبح بالضرورة ليبرالية. فديمقراطيات "الربيع العربي" لم تعانق الثورة لتجعل مجتمعاتها مطابقة لرؤى الغرب التي تقتضي في السياق العربي المساواة بين الجنسين ورفع الرقابة عن المنتجات "غير الأخلاقية" كالخلاعة وحرية التعبير والتجديف. والليبرالية السياسية، كمذهب سياسي يقدس الحريات الفردية، لا يمكن أن تنشأ إلا في مرحلة لاحقة من ترسيخ الديمقراطية. ومن المستبعد أن تؤدي المرحلة الحالية، بما يطبعها من مواجهة بين العلمانيين والأصوليين الدينيين، إلى خلق إطار معياري "على الطريقة الغربية"، بل ولا حتى إلى توافق حول القيم.

وفي هذه البلدان التي تعيش حالة انتقال، لا تعطى الأولوية إلى الصراع الإيديولوجي، ولكن لبقاء المؤسسات واستمراريتها. ولا يقتضي التطبيع الديمقراطي انخراط كل مواطن وكل حزب في نفس الإطار الإيديولوجي، ولكنه يفترض بالأحرى أن تصبح القوانين والمساطر الديمقراطية القواعد النهائية للعبة. وحتى الإسلاميون أصبحوا يدركون أن الفوز في الانتخابات لا يقوم فقط على الشعارات. وعليهم على غرار أي حكومة منتخبة ديمقراطيا أن يلبوا انتظارات ناخبيهم عن طريق خيارات سياسية، وليس بالوعود الجوفاء المبشرة بالسعادةـ أو بالتصلب العقدي.

وكم كانت صدمة الطبقة السياسية ووسائل الإعلام في الغرب كبيرة وهم يرون أحزابا سياسية كالنهضة بتونس أو الإخوان المسلمين بمصر تفوز في انتخابات جاءت بها ثورة لم تشارك فيها إلا قليلا. ومع ذلك، هناك عدة عوامل من شأنها أن تبدد بعض الخوف من أسلمة شاملة للمجتمع.

ففي المقام الأول، ينسى المراقبون الغربيون أغلب الأحيان أن الإسلاميين لا يملكون أي احتكار رمزي لتأويل النصوص المقدسة في الفضاء العمومي. وفي مصر، هناك مؤسسات تاريخية كالأزهر، إلى جانب حركات دينية مثل الصوفية، تمتلك تصورا خاصا عن الأسس التي تقوم عليها العلاقة بين الدين والسياسة، يختلف تماما عن التصور السائد لدى الإسلاميين. بل وحتى داخل الحركة الإسلامية الشاسعة الأطراف التي تشكل منظومة الإسلام السياسي، تنشأ خلافات عنيفة أحيانا بين مختلف التيارات الفكرية، حول قضايا اجتماعية وسياسية كبرى، كما هو الشأن مثلا بين الإخوان المسلمين وسلفيي حزب النور. ويمكن القول إن حرية التأويل الممنوحة لكل مؤمن تشكل أحسن عقبة تكبح جماح طموحات كل من يسعون إلى بسط سيطرتهم على الإسلام خدمة لمصلحتهم السياسية الخاصة.

وفي المقام الثاني، فإن النزعة الإسلامية وإن كانت تجمع معا أعمالا اجتماعية خيرية وجماعات جهادية مقاتلة، فإن أقوى تياراتها وأكثرها نفوذا سياسيا، وهو تيار الإخوان المسلمين، لا يمتلك بتاتا أي سمة تجعل منه طليعة ثورية. فالإخوان المسلمون أحجموا مثلا عن دعم النداء الصادر سنة 1979 عن إيران للقيام بثورة إسلامية تطيح بالديكتاتوريات العلمانية. وهم أيضا أصموا آذانهم ولم يستمعوا إلى النداء الذي أطلقه أسامة ابن لادن في التسعينات.

وفي المقام الثالث، فإن الإسلاميين وإن حققوا انتصارات كاسحة، فإنهم مع ذلك لم يحصلوا على ترخيص لإطلاق يدهم دون رقيب أو حسيب. مما يعني أن النزعة الإسلامية لا يمكن أن تعتبر التعبير الوحيد عن الجماهير العربية. صحيح أن الإخوان المسلمين، وبدرجة أقل السلفيين، فازوا فوزا ساحقا في أولى الانتخابات ما بعد مبارك، المنظمة في دجنبر 2011، وانتزعوا ثلاثة أخماس مقاعد البرلمان، ولكن شعبيتهم ما انفكت منذئذ عن التراجع، كما يدل على ذلك الفوز الصغير لمحمد مرسي بنسبة 51 في المائة، في مواجهة محمد شفيق أحد رجالات النظام السابق.

تهميش الشباب المحتجين

والشيء نفسه يصدق على النهضة بتونس التي تتحكم في 40 في المائة من مقاعد الجمعية التأسيسية، بأغلبية واضحة ولكنها تظل نسبية، مما يفرض عليها التحالف مع تشكيلات علمانية وتقدمية. وفي ليبيا، كاد حزب العدالة والبناء، النسخة المحلية من الإخوان المسلمين، أن يمنى بالهزيمة بعد أن حصل فقط على 10 في المائة من الأصوات في الانتخابات التشريعية في يونيو 2012.

وأخيرا، رغم أن الإسلاميين كانوا في البداية يستشعرون نفورا كبيرا من الانخراط في اللعبة السياسية، فمن المرجح أنهم لن يغادروها إلا وقد تغيروا. وفي مصر، يظل السؤال مطروحا حول الكيفية التي سيندمج بها الإخوان المسلمون والسلفيون أبناء عمومتهم الألداء في المسلسل الديمقراطي على المدى البعيد. مهما يكن، فإنهم لن يتمكنوا فيما يبدو من الاستيلاء على السلطة بالقوة، فالإخوان المسلمون يشكلون حركة اجتماعية محكمة التنظيم، ولكنهم يفتقرون إلى الوسائل والقوة التي تمكنهم من فرض توجهاتهم.

وتبين مظاهرات الغضب التي جاءت كردّ فعل على فيلم أميركي معادي للإسلام درجة التطبيع المتنامي للفاعلين الإسلاميين. فهذا الحدث قد أجبر التشكيلات الأصولية الكبرى على أن تأخذ مسافة واضحة تميزها عن الجماعات الأكثر راديكالية. ولا ننس أيضا أن العديد من الزعماء الإسلاميين اعترضوا على الفيلم مستندين إلى حجج مستقاة من القانون العام مثل القذف، ولم يحيلوا على تعليمات الشريعة القرآنية، أي الحدود، ضد التجديف والنيل من الرموز الدينية.

والملاحظ أنه كلما تراجعت المطالبة بتطبيق الشريعة كنظام قانوني، ازداد التشبث بالإيمان والسعي إلى التشبع به. ومن المعلوم أن الهدف الأساس لأغلب الأصوليين يتمثل في ترسيخ أسس الإسلام في المجتمعات الإسلامية طبقا لمبادئ الشريعة. وتبعا لذلك، فالإخوان المسلمون ليسوا بالتأكيد منظمة ليبرالية. وهذا ما يفسر تخوف الأوساط العلمانية من إقامة نظام حكم ديني. ومع ذلك، يجب ألا ننسى أن أقوى التيارات الإسلامية، متمثلا في الإخوان المسلمين، من مصلحته أن يتبنى المعايير الديمقراطية بشكل يحافظ في الآن نفسه على أهمية الهوية الدينية، والقواعد المؤسساتية للتنافس الانتخابي، فذاك هو السبيل الوحيد الذي يجعله يجني الكثير من المكاسب التي حققها من دوره السياسي في المرحلة الانتقالية الجارية.

بعبارة أخرى، ليس من الضروري الانصياع للإيديولوجية الليبرالية الغربية لتحقيق الديمقراطية. وكل من إسبانيا والبرتغال لم تكونا تتوفران على مثل هذا الإطار الفكري وهما تنخرطان في عملية الدمقرطة في السبعينات. وأمريكا اللاتينية أيضا وهي تخضع في الثمانينات لما سماه سامويل هنتنغتون "الموجة الثالثة من الدمقرطة"[3]. فمنطق الديمقراطية يتمثل في القبول بالاختلافات التي تميز هذه الأطراف عن تلك، داخل إطار دستوري قائم على التعدد وضرورة الخضوع للمحاسبة، وإلا كان البديل هو الاضطرابات والصراع والطريق المسدود.

وما إن يبلغ المخاض الديمقراطي نقطة اللاعودة الحاسمة حيث تتكيف أغلب التشكيلات مع مبدأ الانتخابات والمشاركة، يمكن حينها للمواطنين والقادة أن ينخرطوا في نقاش حول تحول المجتمع في اتجاه ليبرالي بهذه الدرجة أو تلك. يعني هذا بوضوح أن بلدانا مثل ليبيا وتونس ومصر ليست بحاجة كي تقود مسلسلها الديمقراطي إلى بر الأمان أن تتشرب العلمانية كما يحلو للغربيين أن يرددوا. ففي البلدان الغربية نفسها لم تسبق العلمانية الديمقراطية.

وفي تونس ومصر وليبا، كان الشباب المحتجون، وأغلبهم من سكان المدن، ومن الطبقات المتوسطة العلمانية عن اقتناع-بمعنى أنها لا تنتمي إلى جماعات إسلامية- يتصدرون الصفوف الأولى من الثورة، وهم الآن مهمشون في هذه البلدان، بما يستتبع ذلك من تهميش أيضا لتصورهم للمستقبل، ضمن رؤية أكثر علمانية وديمقراطية. ومرد ذلك أنهم عجزوا عن خلق جبهة سياسية موحدة ومنسجمة، في الوقت الذي انهارت فيه الأنظمة السلطوية التي كانوا يحاربونها. وبينما أفلح الإسلاميون في استغلال الفراغ بتعبئة أتباعهم، وحققوا نجاحات انتخابية متفاوتة، رفض الشباب الانخراط في معمعان السياسة المؤسساتية.

وقد نجمت عن هذا الموقف الرافض عواقب وخيمة، فالشباب حرموا أنفسهم من أي سلطة وأي تمثيل في المؤسسات الديمقراطية الجديدة كالبرلمان والمجالس الشعبية، وفضلوا الشارع كفضاء للتعبير السياسي، مركزين على الاحتجاج المباشر والعفوي، مديرين الظهر لسبل أقل حماسا وأكثر تنظيما.

والواقع أن سياسة الشارع تحدث أثريْن اثنين، فهي تسمح من جهة أولى للمواطن بأن يمارس حقه في مراقبة الدولة، ولنتذكر أن ثورة 25 يناير المصرية مثلا ما كانت لتقع لولا أن طلبة وعمالا وأفرادا من الطبقة الوسطى اكتسحوا ساحات المدن في تحد للنظام المركزي، مطالبين بحقوقهم. ومن جهة ثانية، فإن ضجيج الاحتجاج المتواصل الذي يرفض شرعية النظام، لا يمكن أن يعوض الصخب المؤسساتي المصاحب للانتخابات والحملات السياسية. والحال أن الديمقراطية لا يمكن أن تنشأ إلا إذا قبل أغلب مواطنيها قواعدها المشتركة.

وعلى هؤلاء الشباب إن أرادوا مواصلة إسهامهم في "الربيع العربي" أن يكيفوا مصالحهم مع المؤسسات الناشئة. وقد حان الوقت بالنسبة إليهم كي يستثمروا طاقتهم وفكرهم في السياسة الرسمية، ومكانها البرلمانات والانتخابات. وقد يصبحون مساعدين على خلق مشهد سياسي جديد يشجع على التعبير عن النزعة الدينية المحافظة، والتيارات القومية، والمطالب العلمانية، والقيم الوسطية والتقدمية التي تشكل الخريطة الإيديولوجية الكبرى في المجتمعات العربية. والحال أن احتجاجات الشارع إذا خرجت عن السيطرة أدت إلى فشل أفضل السياسات. وإذا لم تجد المصالح الشعبية التي يدافع عنها الشباب داخل النظام قنوات مؤسساتية لتصريفها، فليس من المستبعد أن تعمد أقلية محكمة التنظيم إلى الاستيلاء على السلطة وإحياء ممارسات الماضي السلطوية.

ولا نعدم نماذج عن ذلك في "الموجة الثالثة من الدمقرطة"، فالديكتاتوريون لا يجدون عناء كبيرا في العثور على وسائل لتحريف المؤسسات الجديدة عن مسارها. وأكبر ما يتهدد العالم العربي ليس العودة إلى الديكتاتوريات الدموية البئيسة، ولكن بالأحرى ظهور أنظمة سلطوية جديدة قائمة على تحالفات أوليغارشية أو على انحرافات شعبوية تتلاعب بوسائل الديمقراطية.

وعلى غرار كل التحولات التاريخية الكبرى، خلف "الربيع العربي" منتصرين ومنهزمين. ولا شك أن النخب المثقفة تنتمي إلى الفئة الثانية، إلى جانب حركات الشباب. والحال أن هذه النخب كررت أخطاء أجيال المثقفين السابقة، إذ لم تفلح في ربط الإيديولوجيات التي تعلمتها في الجامعة بهموم السكان الملموسة.

ومنذ ظهور القومية العربية في العشرينات والثلاثينات، اتخذت أجيال من النخب المتعلمة مواقف تقدمية جعلت الصحافة توليها اهتماما خاصا، وأكسبتها مكانة خاصة في صفوف الطبقات المتوسطة. وكان الرفض المبدئي للتهديدات الخارجية من صهيونية وإمبريالية ورأسمالية واستعمار يتكامل لديها مع مطالب أكثر إيجابية من وحدة قومية عربية وعدالة اجتماعية ومساواة مع الغرب. ومع أن المثقفين العرب كانوا أكثر تقدمية من المجتمعات التي ينتمون إليها، فإنهم ظلوا مقيدي الأيدي عاجزين عن الفعل بسبب عجزهم عن إسماع صوتهم في أوساط الشعب والأحزاب السياسية.

وهناك سبب آخر يفسر التهميش الذي لحق بهم، ويتمثل في الخطاب الذي يعتمدونه، وهو خطاب منفصل كل الانفصال عن الواقع الحي، ولا أثر فيه لأي تطلع أو رغبة في حدوث الثورة في البلاد العربية. هكذا لم يعد لخطبهم النارية المكررة ضد الصهيونية والإمبريالية الأمريكية اللذيْن يعدونهم مسؤولين عن كل الأعطاب التي يعاني منها المغرب العربي والشرق الأوسط أي دلالة، مع تأجج الرغبة لدى الشعوب العربية لوضع حد لاستبداد قادتها وفسادهم. ولم يتورع بعض المثقفين، أمام فشل تحليلاتهم للواقع، عن القول إن "الربيع العربي" نتيجة مؤامرة إسرائيلية غربية. ومع انهيار حزب البعث بالعراق، وفي سوريا قريبا أغلب الظن، ستنمحي من الوجود آخر آثار النزعة القومية الداعية إلى الوحدة العربية.

ويعزى انعدام شعبية حركات الشباب والنخب المثقفة إلى سبب آخر يتمثل في معارضتهم القطعية لكل أشكال الإسلامية، مما جعلهم يتقوقعون في نوع من الأصولية العلمانية يرفضون معها الإقرار أن حتى أكثر الإسلاميين اعتدالا يمكن أن يلعب ولو دورا بسيطا في الدولة.

من المغرب إلى المملكة العربية السعودية

وتضم الفئة الثالثة من المنهزمين الملكيات العربية. قد تثير هذه الفكرة استغراب الكثيرين في الوهلة الأولى، على اعتبار أن "الربيع العربي" لم يطح بأي رأس متوجة. وهناك تحليل لهذه الظاهرة يبدو أنه محل إجماع بأوروبا، ومفاده وجود عاملين يفسران هذه المقاومة: من جهة أولى، تمتع هذه الملكيات الحاكمة بشرعية ممتدة بجذورها في التربة الثقافية العربية، مما يجعل الشعوب تقف بجانب ملوكها وأمرائها تعبيرا عن تشبثها بتاريخ مجيد كتبت صفحاته قبل أو خلال معارك الاستقلال. ومن جهة ثانية، قدرة هذه الأنظمة شبه الشمولية على التكيف مع وضعيات الأزمة بما تتوفر عليه من وسائل مؤسساتية تتميز بمرونة شديدة قصد التلاعب على هواها بالرأي العام، بعيدا عن آليات القمع.

ليس هذا التفسير خاطئا في مجمله، ولكنه يغفل كون الملكيات العربية دخلت الآن مرحلة ضعف، فقاعدتها لم تعد بالمتانة التي كانت عليها قبل عشر سنوات. ففي البحرين مثلا، لم يتم القضاء على انتفاضة شريحة واسعة من السكان إلا بعد تدخل دموي منسق للجيش الوطني والقوات التي أرسلها مجلس التعاون الخليجي.

والمغرب أيضا عرف مظاهرات ضخمة. صحيح أن الآفاق الواعدة الناتجة عن مراجعة الدستور خففت حدة التوتر والغضب الشعبي، ولكن غياب إصلاحات عميقة يثير تخوفات من مستقبل مضطرب. وقد يخسر إسلاميو حزب العدالة والتنمية الكثير من مصداقيتهم على غرار باقي الطبقة السياسية، بعد أن قبلوا تشكيل الحكومة دون تنازل حقيقي من قبل الملك محمد السادس. أضف إلى ذلك تراجع حدة القطيعة بين سكان المدن والبوادي، حيث عم الشعور بالنقمة والمطالبة بالعدالة الاجتماعية بشكل تجاوز الانقسامات السابقة بين الطبقات والمناطق.

وفي المملكة العربية السعودية أيضا يجثم النظام الملكي بثقله على المجتمع. فهو يستعمل ثرواته الضخمة التي هي من حسنات موقعه الجيولوجي، للوقوف في وجه كل شكل من أشكال المعارضة، موظفا برامج تنموية مكنته من إرجاء الإصلاحات الهيكلية الضرورية. وفي إمارة الكويت الجارة التي تتوفر منذ مدة طويلة على تجربة برلمانية محتشمة، نشهد تراجع هذا المسلسل. والمظاهرات ضد الفساد والسلطات الحاكمة رجَّت سلطة آل الصباح، كما أن انتخابات دجنبر 2012 قاطعتها المعارضة. وبلغ الصراع بين الأسرة الملكية الحاكمة والمعارضة أوجه ليصطدم بخيار جوهري: إما أن يقبل الأمير تعيين وزير أول من خارج الأسرة الملكية، أو أن يحل البرلمان ويوقع على العودة إلى السلطوية التي قد تكلفه غاليا.

وفي الأردن، تئن الملكية تحت وطأة ديناميتين متكاملتين، فالإسلاميون يرغبون في بقاء    الملك، لأنهم يخشون أن تجعل إسرائيل من انهيار الملكية الهاشمية تعلة لتعلن الضفة الغربية من الأردن وطنا طبيعيا لكل الفلسطينيين، وبالتالي تبرر الإلحاق التام للضفة الغربية، ولكنهم يطالبون بملكية برلمانية وبمزيد من الحريات السياسية. وتواجه الأسرة الهاشمية غضبا متناميا مصدره قاعدتها البدوية، ووقوده ارتفاع نسبة البطالة وقضايا الفساد.

حان الوقت إذن بالنسبة إلى الملكيات العربية أن تتحرك وتضاعف الجهود كي تتنصل من هذه الشبكات المتداخلة من المصالح، هي التي أبدعت في تمتين علاقاتها بمجموعة من الفئات الاجتماعية والسياسية، من رجال أعمال وفلاحين وتجار وقبائل وعلماء، وكلهم يقدمون لها الدعم مقابل الحصول على الامتيازات والحماية. ومن المؤكد أن إنجاز إصلاحات كبرى تؤدي إلى استبدال النظام الشمولي بنظام برلماني لن يضر فقط بالأسر الملكية الحاكمة، ولكن أيضا بمواليها الأتباع. إضافة إلى ذلك، فالناظر في تاريخ المنطقة، سواء في مرحلة ما بعد الاستعمار أو ما بعد الحرب الباردة لن يفوته ملاحظة أن الملكيات غير مستعدة كثيرا لتحويل سلطتها التنفيذية إلى سلطة معنوية. ومن دون ضغوط قوية، ليس من مصلحة الملوك في شيء أن يبادروا إلى القيام بإصلاحات جادة. والملكيات العربية تجازف بتضييع فرصة ذهبية، هي التي طالما امتدُحت بفضل اعتدالها وقدرتها على التكيف. وهي تتمنع عن إعطاء الانطلاقة للانتقال الديمقراطي، بينما نزعة المحافظة على البقاء تفرض عليها بالأحرى أن توظف كل الوسائل الممكنة لتوحيد مجتمعاتها في مواجهة الأزمة، درءا لمستقبل تطبعه الصراعات وعدم الاستقرار.

 

في شباك الجيوسياسية

وقد كشف البعد الجيوسياسي "للربيع العربي" أمام العيان مفارقة غريبة. ولنتذكر كيف بدأت الأمور: ظهر الاحتجاج في مستوى محلي، قبل أن يدوي صداه في المستوى الوطني كدعوة إلى إحلال العدالة، والكرامة، ومقاومة وحشية النظام السياسي. وما هي إلا بضعة أشهر حتى تحول "الربيع العربي" إلى موجة اجتاحت المنطقة، وجرفت عبر الحدود متنا مشتركا من المطالب والقيم. وهذا الانتشار يتجاوز "أثر الجزيرة" الذي طالما أحال عليه الكثيرون، لأنه لا يعمل فقط على نقل ونشر أشكال جديدة من التواصل، ولكنه يأتي أساسا بتصور جديد كل الجدة للنضال السياسي. وقد وجد ضالته في الشبكات الاجتماعية ووسائل الإعلام التقليدية التي عملت على تعميمه، واستقى وقوده من فكرة الوحدة القومية العربية، وإن رفض التسربل بأي معطف إيديولوجي، لينصب كل جهده على توحيد أصوات الحرمان المنددة بالاستبداد، والمنادية بما أوتيت من قوة بالحق في المواطنة.

يمر هذا الزخم اليوم بمرحلته الثالثة، مرحلة مأسسته. ولم يعد "الربيع العربي" فقط مطلبا وطنيا ودوليا، بل إنه خلق فضاء مواجهة عالمية. وتعد انتفاضة البحرين في ربيع 2011 فاتحة هذا المسلسل، فباسم الطبيعة الدينية المذهبية لمعارضة يقودها الشيعة، وطدت الأسرة الملكية السنية تحالفها مع جيرانها من نفس المذهب السني، ومع القوى الغربية، داخل جبهة استراتيجية تقودها المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، فضلا عن الأيادي الخفية لإسرائيل. هكذا تمت شيطنة الحركات الشعبية المنخرطة في مواجهة ملك البحرين، ووصفت بكونها من أذيال الكتلة الشيعية "الراديكالية" كما تجسدها إيران وسوريا وحزب الله. وقد عملت الحرب الأهلية السورية على تسريع وتيرة هذا المسلسل، ولكن ضمن دينامية معكوسة. وفي هذه الحالة، فالمعارضة الشعبية هي التي تحالفت مع المعسكر "المعتدل" للقوى السنية ولحلفائها الغربيين، بينما عزز النظام الاستبدادي الفردي لبشار الأسد تحالفه مع الكتلة الشيعية.

أثر هذان البعدان المذهبي والجيوسياسي أحدهما في الآخر. ورأينا كيف أن المملكة العربية السعودية وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية باتت تشترك في نفس الهدف متمثلا في الحد من نفوذ إيران وسوريا وحزب الله. وهذه المواجهة حولت ما كان انقساما مذهبيا خافتا إلى حرب مفتوحة قد تنجم عنها عواقب مدوية. وفي خضم ذلك، اعتمدت التوصيفات منطقا مانويا سرعان ما اتخذ شكل حقائق لا يأتيها الباطل لا من بين يديها ولا من خلفها، لتصبح الدول السنية من منظور وسائل الإعلام الغربية، جنات آمنة ترفل في حلل الاعتدال والاستقرار، بينما يبدو الشيعيون في صورة مثيري القلاقل والفتن. وبالموازاة مع ذلك، يوظف هذا الصراع كتعلة تتذرع بها بعض الحكومات كي تبقي الأمور على ما هي عليه من جمود، بدعوى مواجهة التهديدات الخارجية. ولا شك ان انهيار النظام السوري سيخلخل معطيات القطيعة بين السنة والشيعة، عاملا على التخفيف من حدتها أو موجها لها نحو مسرح آخر للأحداث.

ولا بد أن يعود "الربيع العربي" من حيث انطلق، أي إلى البلدان التي هي في طور الانتقال، بعد أن تطاير رذاذه ليصيب الساحة العالمية. وقد حاولت إيران وسوريا وحزب الله استقطاب القادة الجدد بتونس ومصر وليبيا، بينما حاول التحالف السني المساند للغرب أن يحقق نفس الهدف. ولم يكن لهذه الضغوطات المتدافعة من أثر سوى أنها دفعت بتونس وطرابلس والقاهرة إلى اعتماد سياسة خارجية محايدة كل الحياد وتسريع وتيرة المأسسة داخل حدودها، وعيا منها أن الأولوية يجب أن تعطى للاستقرار الداخلي، قصد إبعاد شبح الاضطرابات التي تعصف بالمنطقة.  وفي غشت الماضي، اختار محمد مرسي المشاركة في مؤتمر قمة دول عدم الانحياز المنعقد بطهران، العاصمة الحليفة لدمشق. ولكنه انحاز للمعارضة السورية، مبرزا من جديد انخراطه في لعبة التوازنات. ونفس الأمر طالعنا في أزمة قطاع غزة، في أكتوبر الماضي، حيث لم يتردد في الاعتماد على جهاز مخابرات بلده، مع أن هذا الجهاز هو الذي كان يخضع، قبل بضعة أشهر، الإخوان المسلمين للقمع والتنكيل.

وتحاول الأنظمة الجديدة بتونس ومصر وليبيا وضع سياسة تقوم على التروي، وتتراوح بين المرونة والبراغماتية، مستهدفة اطراح الصراعات المذهبية والتأويلات الضيقة للدين والانحياز الجيوسياسي. وفي سعي هذه الأنظمة أولا وقبل أي شيء آخر إلى تعزيز استقرارها الداخلي، فإنها تعتبر طرفي الاقتتال في الحرب الدموية السورية عائقا أمام بناء نظام ديمقراطي جديد.

وهذه المفارقة ومفادها أن صراعا دوليا يساهم في استقرار المسلسل الديمقراطي في المستوى الوطني تفتح صفحة جديدة في التاريخ الحديث للشرق الأوسط. وقبل فترة ليست بالبعيدة، كانت هناك مواجهة هيكلية بين الغرب وحلفائه العرب من جهة وتكتلات إيديولوجية تعتبر انقلابية ومدمرة، من قبيل الخطر الشيوعي الذي مثله التحالف بين برئيس الاتحاد السوفياتي بريجنيف والرئيس المصري جمال عبد الناصر، أو الثورة الإسلامية بقيادة آية الله الخميني، وأيضا "محور الشر" مجسدا في ابن لادن. بيد أن إعادة تشكل التحالفات الجاري حاليا في المنطقة، قد نستشرف معه بروز مواقف أقل حدة وأكثر مرونة. ولن يجازف أي مراقب، حتى و"الربيع العربي" في أوج عنفوانه، بتصنيف هذا المسلسل تحت يافطة إيديولوجية معينة، أو نسبته إلى إمبراطورية ما، أو قوة عظمى، أو تنظيم راديكالي. فهذه الحركة لم تنطلق سوى بوحي من طاقتها نفسها، قبل أن تعلق في شباك الجيوسياسية.

وستعود الكلمة الأخيرة في المستقبل للصدام المذهبي، فالصراع بين الشيعة والسنة الذي تؤججه القوى الخارجية وتوجهه لخدمة مصالحها قد يعمل على مضاعفة التصدعات، وتلبيد سماء "الربيع العربي" بالسحب الداكنة لفترات طويلة.



(1) Lire le dossier « Sur les braises du “printemps arabe” », Le Monde diplomatique, novembre 2012.

(2) Lire Patrick Haimzadeh, « La Libye aux mains des milices », Le Monde diplomatique, octobre 2012.

(3) Samuel P. Huntington, The Third Wave: Democratization in the Late Twentieth Century, University of Oklahoma Press, Norman, 1991.

الربيع العربي لم يقل كلمته الأخيرة

سوريا والبحرين ومصر وتونس، أربعة مصائر للثورة

فبراير 2014

بعد ثلاث سنوات من بداية حركة تخلصت من ديكتاتوريات زين العابدين بن علي وحسني مبارك ومعمر القذافي، تسعى الاحتجاجات في العالم العربي، المهددة بالتدخل الأجنبي والانقسامات الطائفية، إلى البحث عن نفس جديد. إذا كانت سوريا تعيش أسوأ السيناريوهات، فإن تونس تؤكد أن التطلع إلى المواطنة والبحث عن حل وسط يمكن أن يؤدي إلى تقدم حقيقي

في أيامه الأولى، زعزع "الربيع العربي" الأحكام المسبقة الغربية وسحب المصداقية عن تلك القناعات الاستشراقية حول عجز العرب الأصيل عن تصور نظام ديمقراطي وقوض الاعتقاد بأنهم لا يستحقون أفضل من أن يحكمهم الطغاة الـمستبدون. وبعد ثلاث سنوات، تحول هذا الربيع إلى واقع مظلم ولا تزال هناك شكوك بشأن نتيجة العملية برمتها والتي تدخل مرحلتها الرابعة. شهدت المرحلة الأولى، التي اكتملت في عام 2011، موجة هائلة من المطالب بالكرامة والمواطنة، غذتها احتجاجات كثيفة وعفوية. وكانت الخطوة التالية، في عام 2012، هي تراجع الصراعات إلى سياقها المحلي وتكييفها مع التراث التاريخي لكل بلد. وفي الوقت نفسه، بدأت القوى الخارجية في إعادة توجيه هذه الصراعات في اتجاهات أكثر خطورة، مما دفع الناس إلى الوضع الذي يمرون به اليوم. 

ثم شهدنا في العام الماضي مرحلة ثالثة، اتسمت بالتدويل والتدخل العدواني المتزايد من جانب القوى الإقليمية والغربية. وقد انتشر التركيز على المنافسات السنية-الشيعية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، مما دفع كل دولة ومجتمع إلى الاستقطاب على محور الهويات الطائفية. وقد ازداد العداء بين الإسلاموية (الإسلام السياسي) والعلمانية تصلبا على نطاق واسع. ويأتي الخطر من المنافسات الجيوسياسية والتوترات الدينية التي تتجاوز خصوصيات كل بلد، ويبدو أنها تختزل دور الأطراف السياسية المحلية في دمى تتحكم فيها القوى الأجنبية. 

وتكشف المقارنة بين سوريا والبحرين ومصر وتونس عن طيف متعدد الألوان من التأثيرات الدولية. وفي البلدين الأولين، أشعلت التدخلات الخارجية الحرب الأهلية وحشدت أكثر الأطراف تطرفا من المتمردين.  وفي مصر، أدى الدعم الغربي لسياسات النظام الجديد الاستبدادية إلى إحباط الدوافع الديمقراطية الأصلية ويبدو أن تونس وحدها هي التي تسير على طريق واعد، لأنها لا تزال بمنأى نسبيا عن الاشتباكات الجيوسياسية والدينية والأيديولوجية التي اجتاحت المنطقة. 

ولكن في كل من هذه البلدان، ترك "الربيع العربي" بصمة لا تمحى لتعبئة شعبية أصبح فيها المواطنون يدركون قوتهم. فقد فتحت مساحات من الاحتجاج لا يمكن للدولة إغلاقها إلا باللجوء إلى القمع الشديد المكلف سياسيا. وبقدر ما قد يكون المستقبل غامضا، فإن النظام الحديدي الذي ساد من قبل قد انهار بالفعل. 

في سوريا، نشأت الحرب من حركة عصيان مدني سرعان ما تحولت إلى انتفاضة شعبية واسعة النطاق وفشل رد النظام الوحشي على التحذيرات الأولى في تخويف المتظاهرين، لكنه بدأ دورة مدمرة من الاحتجاجات والقمع.  

وإذا كان الجهاز العسكري للرئيس بشار الأسد قد بدد بسرعة الأمل في ثورة سلمية، فإن الحسابات الجيوسياسية والرهانات الطائفية هي التي غلّفت الثورة فيما بعد، هي التي عجّلت بتحويل التمرد إلى حرب أهلية بغيضة: لقد أسفرت الحرب عن سقوط عدد كبير من الضحايا بلغ حتى الآن، مائة وعشرون ألف قتيل، بالإضافة إلى مليونين ونصف المليون لاجئ وأربعة ملايين نازح. 

لطالما اتسمت سوريا بتنوع تقاليدها الدينية والطائفية. ومن خلال استغلال التوترات الداخلية، كسرت القوى الخارجية هذه الفسيفساء الهشة. وتكون هذه الدولة ذات أهمية مركزية في الشرق الاوسط حيث تصطدم مصالح الولايات المتحدة واسرائيل والعربية السعودية وقطر والاردن وتركيا وإيران.  وقد تفاقمت الانقسامات التاريخية في هذا الجزء من العالم بين الطائفتين المتنافستين في الإسلام، السنة والشيعة، بسبب هذه الدول الطموحة في محاولة لزيادة نفوذها.

وينظر إلى العشيرة العلوية التي تشكل نظام الأسد على أنها جزء من قوس شيعي من إيران إلى لبنان حيث يوجد "حزب الله"، في حين تنتمي الجماعات المتمردة في معظمها إلى المعسكر السني. ولكن هذا التقسيم يغطي رقعة شطرنج أكثر دقة. وعلى غرار المجاهدين الأفغان في الثمانينيات، تفتقر المعارضة السورية بشدة إلى التماسك. ولا يعرف ممثلوها في الخارج إلا القليل من الجماعات المسلحة التي تقاتل على الأرض أو لا علم لهم بها أصلا.  وهم يلتمسون الدعم في أماكن أخرى: ففي شمال البلاد، يعتمدون عادة على المساعدة من تركيا وقطر، بينما يتلقون في الجنوب الأسلحة والمساعدات من الأردن والمملكة العربية السعودية والولايات المتحدة. 

إن هذه التداخلات الجيوسياسية تثير مفارقات تتناقض مع قراءة طائفية بحتة للصراع. أشادت الرياض بالانقلاب العسكري في مصر ضد جماعة الإخوان المسلمين، التي تشترك في نفس التوجه مع الجماعات التي تسلحها الرياض نفسها على الساحة السورية. كما أن ذوبان الجليد مؤخرا بين واشنطن وطهران يخفف من حدة الرؤية الثنائية التي غالبا ما تنقلها وسائل الإعلام الغربية: فإسرائيل والمملكة العربية السعودية تشعران بالتخلي عنهما من طرف واشنطن في مواجهة طهران وتجدان نفسيهما فجأة حليفتين بحكم الواقع. 

كما أن الانقسام بين القوى العلمانية والإسلامية له وزنه. وفي حين يدّعي "الجيش السوري الحر" جذوره العلمانية، تشكل معظم الجماعات الأخرى فسيفساء فكريا يتراوح بين الإسلاميين المعتدلين والجهاديين المقربين من تنظيم «القاعدة» والسلفيين، ومن الصعب أيضا تقييم مدى إظهار الفصائل الأكثر تطرفا، مثل أحرار الشام أو تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، لقناعة دينية حقيقية أو استخدام رايتها لأغراض أكثر واقعية. ومع ذلك، فتح هذا التشرذم، وهو مصدر خلاف متزايد، جبهة ثانية داخل معسكر المتمردين نفسه، كما يتضح من القتال المميت بين الجيش السوري الحر وداعش في شمال سوريا في أوائل يناير. إن هذا التشتت في الحرب الأهلية ليس غريبا عن بقاء نظام الأسد.

وغالبا ما يتم تقديم الصراع السوري بصفته ميكانيكا بسيطة: عندما تضعف السلطة تتقوى المعارضة، والعكس صحيح بل لا يجب أن ننسى أن المال والأسلحة ليسا كل شيء في الحرب، وأنها تحتاج أيضا إلى الرجال. ومع ذلك، في هذا الصدد، تهدد الندرة نظام دمشق باستمرار. ولذلك فإن تعزيز قوات القدس الإيرانية ووحدات حزب الله اللبناني والميليشيات المحلية أمر حيوي للحفاظ على قوته العسكرية. ولم يعد استخدام الأسلحة الكيميائية خيارا مطروحا، ولذلك تعتمد السلطة أكثر من أي وقت مضى على مسانديها الأجانب. 

انهيار جماعة الإخوان المسلمين  

إن المصدر الرئيسي للقلق هو التطرف الجديد للمعارضة والنظام السوري. وتستفيد جبهة النصرة وداعش، وكلاهما ينحدران من تنظيم القاعدة، استفادة كبيرة من المعونة المقدمة من الخليج.  كما زادت المملكة العربية السعودية من مشاركتها من خلال دعم الجماعات غير المرتبطة بالحركة الإرهابية التي أسسها أسامة بن لادن، مما خلخل توازن القوى داخل المعارضة. ومن جانبه، تغير الجيش النظامي تغيرا عميقا. ومنذ معركة القصير في مايو - يونيو 2013، أعادت ق سرايا القدس وحزب الله نشر القوات على شكل وحدات متنقلة صغيرة منظمة كميليشيات. 

ولكل هذه الأسباب، لا تهتم القوى الأجنبية كثيرا بإنهاء الصراع. ولا تستطيع الولايات المتحدة تحمل حرب جديدة، وهي تستوعب رؤية هيمنتها تتقلص في الشرق الأوسط، وتتمثل استراتيجيتها الآن في منح الأولوية لآسيا. في منطق السياسة الواقعية الأمريكية، لم تعد واشنطن تملك الوسائل لمنع تفاقم الحالة السورية: وكما أشار المستشار إدوارد لوتواك في صحيفة نيويورك تايمز (1)، فإن الحكمة تملي أن نترك المتحاربين يقتل بعضهم البعض قدر الإمكان، لأن انتصار المعارضة التي يهيمن عليها الإسلاميون سيكون ضارا بالمصالح الغربية بقدر ما يضر بانتصار عشيرة الأسد.  وسيرحب الحليف السعودي بسقوط نظام دمشق، وقد يكون راضيا عن بلد مقسم وعرضة للفوضى، الأمر الذي من شأنه أن يقطع المحور الشيعي الذي يربط بين لبنان وإيران. إن سوريا غير القابلة للاستقرار هي بالنسبة لطهران وموسكو خيار أفضل من انتصار المتمردين، حتى لو كان ذلك يعني السماح لأحد أفراد عائلة الأسد بالمكوث في قصره في دمشق، كما فعل نظيره الأفغاني ذات مرة.

 ولذلك يبدو السلام على المدى القصير مستبعدا للغاية. وفي حين يجب محاسبة مرتكبي الفظائع المرتكبة على أرض الواقع، فإن القوى الأجنبية التي تؤجج هذا العنف تتحمل الكثير من المسؤولية. إن الحرب الأهلية أصبحت مروعة لدرجة أن قلة لا تزال تتذكر مواكب اللحظة الأولى، عندما طالب الشعب ببساطة بالحق في الكرامة والمواطنة. في هذه المأساة، ربما يكون هذا هو الأكثر حزنا.

 وفي البحرين أيضا، تظهر القوى الأجنبية قدرتها على تأجيج التوترات المحلية، ولكن بطريقة مختلفة تماما عما هي عليه في سوريا.  وقد عكست المظاهرات الأولى في هذه الجزيرة الخليجية الصغيرة رغبة مشتركة على نطاق واسع في الحصول على الديمقراطية: وتشير التقديرات إلى أنها حشدت في أوجها ما يقرب من خمس السكان. وإذا كان التدخل العسكري لمجلس التعاون الخليجي قد أجهض بسرعة هذا الطموح الجماعي فإن فشل الحركة يفسر أيضا، وربما قبل كل شيء، ببروز عوامل الجغرافيا السياسية والشعارات الطائفية. 

وبينما في سوريا تواجه السلطة العلوية أغلبية من السكان السنة، فالبحرين بلاد يسكنها الشيعة بشكل رئيسي وتحكمها ملكية سنية. ولهذا السبب تتصادم مصالح القوتين المتنافستين في المنطقة، إيران والمملكة العربية السعودية، بشكل مباشر. ونظرا لقربها الجغرافي، تمارس الرياض حق التدخل في جارتها. وبدعم من الغرب، استجاب تدخل قوات مجلس التعاون الخليجي صراحة لرغبة الرياض في إبقاء البحرين ضمن منطقة نفوذها. 

في البداية، سار الشيعة والسنة جنبا إلى جنب، على نفس خط المطالب الديمقراطية. ولم تتخلص الخريطة الطائفية تدريجيا من الأهداف السياسية إلا عندما حدث التدخل السعودي.  ولكن استغلال هذه العوامل التي تعكس الديناميات المحلية من طرف المصالح الخارجية قد أبرز هشاشة النظام. وبدون المساعدة المالية والعسكرية والسياسية من عند دول الخليج، لن يكون لدى أسرة آل خليفة الوسائل أو الشرعية للبقاء في السلطة. وبقاؤها الآن يعتمد فقط على حماتها الأجانب.

 لقد فوّت تدويل الصراع على المجتمع البحريني فرصة تاريخية لحل توتراته الطائفية القديمة من خلال الحوار الديمقراطي. وفي حين أدت نفس الأسباب إلى انفجار سوريا، إلا أنها في البحرين أبقت على نظام استبداديا تحت التنفس الاصطناعي.

 وعلى عكس سوريا والبحرين، فإن مصر بلد قوي ومستقل بما يكفي لمواجهة الضغوط الخارجية. ومع ذلك، ترتبط القوى الأجنبية العظمى ارتباطا وثيقا بالدراما السياسية التي تجري هناك.  في يوليو 2013، أطاح انقلاب عسكري بحكومة الإخوان المسلمين المنبوذة ولكن المشروعة. في أي مكان آخر، كان من شأن مثل هذا الانقلاب   العنيف على العملية الديمقراطية أن يثير غضبا عالميا. ومع ذلك، فقد حصل في مصر على تأييد الدبلوماسيات الغربية وسرعان ما أيدته الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، وكذلك المملكة العربية السعودية وجيرانها الخليجيون، فضلا عن الأردن والمغرب وإسرائيل، لأن الانقلاب العسكري هو الذي خلصهم من محمد مرسي المنتخب ديمقراطيا ولكنه كان يُعتبر غير قابل للسيطرة عليه بسهولة. 

وبمجرد أن صعد النظام الجديد للحكم سارعت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت إلى مساندته بدفع 12 مليار دولار كمساعدات اقتصادية، أي أكثر بتسع مرات من المساعدات العسكرية السنوية الأمريكية التي تبلغ 1.3 مليار دولار ويمكن تفسير اختيار الرياض بسببين على الأقل: من ناحية، عدم ثقة النظام الوهابي منذ أمد طويل بجماعة الإخوان المسلمين؛ ومن ناحية أخرى، هناك الخوف أن يمتد نموذج الديمقراطية الفتية في مصر إلى بلدهم ويمنح فرصة شعبية للقوى الإسلامية ويشجع السعوديين على تحدي حكامهم.

 إن تأييد الغرب للانقلاب العسكري لم يعزز من هيبته بين الشعب المصري، مدفوعا بالرسالة الضمنية القائلة بأن الديمقراطية لا تقبل إلا إذا منحت السلطة إلى مرشحين أيّدتهم القوى الأجنبية. والمفارقة هي أنه من خلال إدارة ظهرها لجماعة الإخوان المسلمين، خربت واشنطن وحلفاؤها من تلقاء أنفسهم المشروع العربي الغربي لكتلة سنية متماسكة يمكن أن تقف في وجه النفوذ الإيراني، مما أسفر عن تقارب غير مقصود وغير مألوف بين السياسات الخارجية السعودية والإسرائيلية.

 صحيح أن انقلاب اللواء عبد الفتاح السيسي كان أيضا نتيجة لوضع اقتصادي كارثي وتراجع شعبية الرئيس مرسي. وحتى ناخبوه فقدوا الثقة في قدرة الحكومة على الاستجابة لـمشاكل البطالة والفساد وقد عجلت طموحات الهيمنة من طرف جماعة الإخوان المسلمين، التي رفضت تقاسم أي جزء من السلطة، بتشويه سمعتها. كما واجهوا مقاومة من طرف جهاز الدولة، الذي كان يتألف دائما من رجال شرطة وقضاة وفلول (كبار الشخصيات في النظام القديم) وكلهم معادون بشكل حاد للإخوان المسلمين. هذه "الدولة العميقة" لم تفوت فرصة العودة إلى السطح. ولم تكن هذه المهمة صعبة لأن الإخوان المسلمين، من خلال ملاحقتهم للقضاة والمحافظين والشخصيات البارزة لوضع رجالهم داخل "جهاز الدولة"، قد نفّروا أيضا حلفاءهم المحتملين داخل اليسار والسلفيين.

 إن الصاعقة التي حلت بهم تعني أيضا نهاية تلك الهالة التي كانت تحيط بالإسلام السياسي كقوة لا تقهر وتبين أن الجماعة ليست تنظيما ثوريا ولا فرعا محليا لتنظيم إرهابي دولي، بل كانت منظمة محافظة تدعو إلى التقوى الدينية والليبرالية الاقتصادية والإحسان تجاه الفقراء. ولم يكن لها احتكار للإسلام ولم يكن لها أي صلة بالسلفيين أو فقهاء الأزهر. ويعيش اليوم أتباعها في السجن أو مختبئين. وقد أظهر السلفيون من حزب النور، الأكثر حذرا أو الأكثر تعرضا للضرب، براغماتيتهم من خلال الولاء للنظام العسكري. ومع "الربيع العربي"، تنوع المجال الإسلامي وتجزأ، كما أفرز شخصيات جديدة خارج الدوائر الفقهية والسياسية التقليدية. 

المحاسبة أمام الشعب

 خلال فترة حكمها القصيرة، حرصت جماعة الإخوان المسلمين على عدم الشروع في أسلمة قسرية للمجتمع. بل إن هدفهم كان تعزيز هيمنتهم السياسية على المجال المؤسساتي. وليس من قبيل المصادفة أن حكومة مرسي دافعت عن نفسها خلال الانقلاب بالإشارة إلى حجة الشرعية الانتخابية بدلا من الشريعة الإسلامية. وفي هذا الصدد، يبدو أن الخوف الغربي من أن يؤدي "الربيع العربي" إلى عدوى إسلامية في الشرق الأوسط ليس في محله. 

وفي مصر نفسها، حظي الانقلاب العسكري بمباركة حركة شباب التمرد والكنيسة القبطية والتشكيلات العلمانية الليبرالية. ومن الواضح أن الليبرالية التي تدعيها هذه الأخيرة لم تشمل الدفاع عن التعددية السياسية، وهي التي تتعارض مع استبعاد جماعة الإخوان المسلمين.  ومنذ ذلك الحين، أصبح من السهل أن تختفي التعددية تماما. إن الرقابة التي فرضها النظام العسكري الجديد هي في الواقع أكثر عنادا من تلك التي سادت في ظل رئاسة الرئيس حسني مبارك. لقد أقدم على التخلص من جماعة الإخوان المسلمين ومحوها من الخريطة بعنف لم تشهده البلاد منذ عهد الرئيس جمال عبد الناصر كما أنه أضاف إلى ذلك حملة قومية ومعادية لهم ترسخ عند الناس فكرة كل عضو في الجماعة هو إرهابي مأجور من الخارج. والنتيجة غير المقصودة للثورة المصرية هي استبدال الرئاسة الاستبدادية بديكتاتورية عسكرية تستخدم الأحكام العرفية والعنف القانوني. ولم يحدث إلغاء الانتخابات، ولكنها تجري تحت رقابة مشددة. 

بسبب الحظر المفروض على جماعة الإخوان المسلمين وتفسخ جميع القوى السياسية في البلاد، فرض الجيش نفسه بسهولة في غياب بديل قوي. فهو لن يغادر السلطة بمفرده، على الأقل طالما أنه يستفيد من تواطؤ القوى الغربية ودول الخليج، لأنه يعتبر نفسه حجر الزاوية في المجتمع.

إن مصر لا تعاني من التوترات العرقية والدينية مثل التي تقوض بعض جيرانها؛ ولذلك يبدو أن فرضية اندلاع صراع مفتوح مستبعدة. والحقيقة هي أن الجيش لا يستطيع ببساطة الاكتفاء باستعادة النظام القديم. لقد أصبحت تكلفة القمع الواسع النطاق باهظة من الناحية السياسية، كما اكتشف المصريون قوة التعبئة الجماهيرية ومفعولها. ومن المرجح أيضا أن تتسع الفجوة بين التيارين الإسلامي والعلماني وقد يميل بعض الإخوان المسلمين إلى حمل السلاح.

 ولكن الجديد الرئيسي هو الطلب المتزايد بين الناس على محاسبة المسؤولين. وحتى خلال انقلاب يوليو 2013، كان على الجيش تبرير عمله، بعد أن أعربت مبادرة ديمقراطية بتكليف من جماعات المواطنين عن مخاوفها بصوت مرتفع ومسموع.

يواجه النظام الآن خيارا شائكا: هل سيعود إلى نظام مبارك، مع تحول الجنرال السيسي من البذلة العسكرية ذات اللون الكاكي إلى ارتداء ربطة العنق، أم أنه سيفضل النموذج الباكستاني، حيث يكون للمدنيين رأيهم، ولكن يمنح الجيش حق النقض (الفيتو) على القضايا الهامة؟

 وبالمقارنة، فإن الانتقال التونسي سيبدو وكأنه نزهة في الحديقة. وبقيادة الجهات الفاعلة المحلية التي يبدو أنها منشغلة بالاستقرار واحترام القواعد الديمقراطية، ظلت بمنأى إلى حد كبير عن التلاعب الخارجي. ويفسر ذلك على وجه الخصوص بجغرافيتها: فرغم مراقبتها عن كثب من قبل القوة الاستعمارية الفرنسية السابقة، إلا أن تونس نادرا ما كانت مسرحا للمسابقات الجيوسياسية للمصالح الأجنبية. وسكانها متجانسون نسبيا من الناحية الدينية. كان الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين أبرز نقاط الخلاف منذ سقوط الرئيس زين العابدين بن علي.

 فاز حزب النهضة ذو المرجعية الإسلامية في أول انتخابات حرة، لكنه ارتكب نفس الخطأ الذي ارتكبه الإخوان المسلمون: فقد فسّر التفويض الذي حصل عليه على أنه مفتاح للإمساك بالسلطة المطلقة. تدهور الوضع السياسي بسرعة، مع اغتيال العديد من المعارضين اليساريين وصعود الجماعات السلفية، المعادية بشدة للتعددية الانتخابية. وقد أصابت تهديداتهم الناس بالرعب، وهم غير معتادين على مثل هذا المناخ. 

وفي تونس، لا يمكن لأي معسكر أن يدعي الهيمنة لوحده، وقد شكل حزب النهضة ائتلافا مع حزبين علمانيين. ولذلك، أصبحت الحركات الليبرالية والتقدمية تقبل الحوار الوطني الذي تقترحه الحكومة وتعمل مع الإسلاميين - باستثناء أكثر المتطرفين، ولا سيما السلفيين. واتفقت جميع الأطراف على الساحة الانتخابية على أنه لم يعد من الممكن تجاهل خطر اندلاع دوامة من العنف السياسي.  وعلاوة على ذلك، ثبت أن الفجوة بين المناضل المتديّن والعلماني أقل صعوبة مما كان متوقعا. وفي نهاية المطاف، لا يتميز الإسلاميون المعتدلون عن منافسيهم العلمانيين بكثير من المواقف، في حين أدرك الأخرون بسهولة أكبر أهمية الدين في أي نظام سياسي جديد.

 ولكن قبل كل شيء، فالمجتمع المدني اليقظ هو الذي أعاد تنشيط ضرورة التحول الديمقراطي. وقد عبر الاتحاد التونسي العام للشغل، وكذلك تنظيم رجال الأعمال للاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والحرف اليدوية، ونقابة المحامين والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، عن رأيهم خلال الحوار الوطني. وحددوا أهدافا جديدة للحكومة ودعوا إلى التصديق على الدستور.

 أما الجيش، فإن وزنه أقل بكثير مما هو عليه في مصر: فهو صغير العدد وغير مسيس، وظل في ثكناته منذ عام 2011. كان نظام بن علي السابق دولة بوليسية، وليس ديكتاتورية عسكرية. ويمكن لحكمها التكنوقراطي والفاسد أن يعيش من دون قاعدة أيديولوجية ولهذا السبب قامت الثورة التونسية بإقالة نخب الحزب الواحد السابق، بينما تركت البيروقراطية وقوات الشرطة، التي لم تكن مرتبطة بالنظام، سليمة. وقد ساعد الحفاظ على هذا الإطار في استقرار نسبي للنظام القانوني. وبالإضافة إلى ذلك، فالحكم الاستبدادي السابق أسس بنية قوية من المؤسسات والقوانين، لم يستعملها إلا قليلا في السنوات العشر الأخيرة من عهد بن علي، ولكن يمكنها أن تكون الآن مفيدة في بناء نظام ديمقراطي فعال. ولأن نظام الماضي كان مفتقرا لأي أيديولوجية يمكن أن تعود إلى الظهور من جديد، فإن استعادة دولة استبدادية تبدو غير محتملة.

ومن حسن حظ تونس أنها قادرة على الاستجابة لتقلباتها بمفردها، دون الاهتمام بحسن نية الآخرين.  وقد لعبت القوى العالمية والإقليمية دورا ثانويا في عملية الانتقال الجارية. ولم تستخدم واشنطن حق النقض (الفيتو) ضد دخول حزب النهضة إلى الحكومة، كما أنها لم تساند أي مرشح. وقد امتنعت دول الخليج النفطية عن دعم المفضلين لديها بأغلبية ساحقة. وفرنسا حصرت نفسها في الحياد الحذر، وصورتها المتبقية مشوبة بالدعم الثابت الذي قدمته للسيد بن علي حتى اللحظة الأخيرة من حكمه. وإذا نجحت التجربة التونسية، فإنها ستكون إشارة أمل إلى جميع أنحاء المنطقة، وربما خارجها.

رعايا تحولوا إلى مواطنين

 ومع دخول "الربيع العربي" عامه الرابع، يتوقع استمرار التدخل في الصراعات المحلية وتضخيم آثارها الضارة. فالخطوط الأمامية الجيوسياسية والدينية والأيديولوجية تمزق الآن الشرق الأوسط بأسره. ولا يمكن للعالم الخارجي أن يساعد على إحيائها إلا بالتخلي عن التدخل في الثورات.

 ومع ذلك، يمكن تحديد بعض الاتجاهات الأكثر دقة بالنسبة لهذه السنة الجديدة: أولا، من المرجح أن تلقي الممالك الخليجية بثقلها على شؤون جيرانها العرب. وتعطيهم إيرادات النفط تأثيرا حاسما على البلدان الأقل ثراء مثل مصر والمغرب والأردن، حيث تتجاوز مساعداتهم مساعدات الكتلة الغربية. ولكن هذه الأخيرة ولو أنها أقل حجما ولكنها تتمتع بميزة عدم الاعتماد على أسعار النفط أو على مزاج الأمراء. 

ثانيا، يجب التأكيد على أهمية الاتفاقات المبرمة خلال فترة انتقالية وطنية. وفي سياقات أخرى من التحول إلى الديمقراطية، كما هو الحال في أمريكا اللاتينية، اتفق الجميع على طابع مؤسساتي عميق بالنسبة لاتفاقات التسوية بين القوى المتنافسة وقبلوها. وفي الشرق الأوسط، من ناحية أخرى، يسود منطق التقسيم على البحث عن حل وسط، بحيث تتمزق الفصائل من أجل السلطة بدلا من تقاسمها. 

ثالثا، إن ضعف المؤسسات المحلية، إلى جانب التدخلات غير الحكيمة للقوى الأجنبية، أعطى مخربي العملية الديمقراطية بعض الأرض الفرصة للتحرك: السلفيون التونسيون والليبراليون المزيفون في مصر هم شخصيات ثانوية ليس لديهم ما يخسرونه من خلال كسر التنازلات التي يصعب التفاوض بشأنها. لا تزداد أهميتهم إلا بقدر تآكل المؤسسات وهيمنة منطق المصالح. وفي السيناريوهات المتطرفة، لا تملك الدول الفاشلة الوسائل لكسر الحلقة المفرغة للمعضلة الأمنية. وفي اليمن ولبنان، تفضل جماعات كثيرة حمل السلاح بدلا من الاعتماد على دولة غير قادرة على حمايتهم، وبذلك يزيدون في إضعافها. 

وتتعلق النقطة الأخيرة والأكثر إيجابية بالمواطنة حيث لم تعد الشعوب العربية تعتبر نفسها جماهير من الرعايا بل قوى مواطنة تستحق الاحترام والتعبير. وعندما تظهر انتفاضة جديدة، ستكون أكثر عفوية وأكثر تفجرا وأكثر دواما. لقد عرف المواطنون العرب الحلول المتطرفة التي ترغب حكوماتهم في اللجوء إليها من أجل البقاء في السلطة. كما أن الأنظمة القسرية تدرك جيدا تصميم الجماهير على "التخلص منها ". أن هذا "الربيع العربي" لم يقل كلمته الأخيرة.



(1) Edward Luttwak, « In Syria, America loses if either side wins », The New York Times, 24 août 2013.

صمم الحكومات العربية

هجمات باريس وموجة الصدمة

فبراير 2015

إن الأنظمة في الشرق الأوسط، بشروعها في حرب باردة إقليمية، تتصور حماية نفسها من عدوى "الربيع العربي". <>من أين يأتي هذا المنطق: تأجيج التوترات مع جيرانهم للحفاظ على الوضع الداخلي الراهن وهي استراتيجية تؤدي إلى مأزق محفوف بتهديدات جديدة

 في الشرق الأوسط، حاولت الأنظمة السياسية التي تواجه صعوبات اقتصادية واجتماعية أن تنفخ جمر التوترات الإقليمية لإخفاء مشاكلها الداخلية. وقد أسهمت هذه العوامل، كما هو الحال دائما، عندما تزداد الحاجة إلى الأمن والبقاء، في تصعيد التوترات والصراعات بتجاهلها المطالب الأساسية للمواطنين، بما في ذلك حاجتهم إلى الاستماع إليهم ورغبتهم في الكرامة. ومع ذلك، فإن هذه المطالب نفسها هي التي أطلقت "الربيع العربي" اعتبارا من شهر ديسمبر 2010. 

تشهد المنطقة حاليا ما أطلق عليه العديد من المراقبين "حربا إقليمية   عربية جديدة"، والتي تتعارض جبهاتها أحيانا: فالصراع الأول يستهدف جماعة الإخوان المسلمين والبعد العابر للحدود الوطنية لأيديولوجيتها الإسلامية؛ والثاني يأخذ شكل صراع بين الشيعة والسنة. وقد تسببت مواجهات مماثلة بالفعل في وقوع مذابح، ولكنها لم تكن مميتة إلى هذا الحد. 

والدول التي تخوض هذه الحرب الباردة الإقليمية الجديدة تنقسم إلى مجموعتين فرعيتين. فمن ناحية، جمّدت بلدان الأردن وإيران ومصر، كل الإصلاحات السياسية، الموعودة أو الجارية، الرامية إلى توسيع نطاق المشاركة الشعبية وإحراز تقدم نحو إرساء الديمقراطية. ومن ناحية أخرى، أرجأت دول أخرى أي مشروع للإصلاح الهيكلي، مثل الإمارات العربية المتحدة وقطر والمملكة العربية السعودية. 

وخلافا لما لوحظ في النصف الثاني من القرن العشرين، نادرا ما يكون لدى المتحاربين أيديولوجية أو مشروع قابل للتطبيق للمستقبل. ما هو طموحهم؟ البقاء على قيد الحياة، والحفاظ على هياكل السلطة الحالية سليمة. وبطبيعة الحال، فإن هذه الأنظمة لديها طريق آخر لتسلكه: الاستفادة من شرعيتها التقليدية الحقيقية، فضلا عن مواردها البشرية والمالية لتلبية التطلعات الشعبية لمجتمعاتها. قبل أربع سنوات، كان رفض الانتباه إلى هذا الطموح هو الذي أطلق "الربيع العربي" في معظم المنطقة. ولكن بدلا من دفع التكاليف الباهظة لهذا الإصلاح، فإن استراتيجيتهم هي تصدير تناقضاتهم، من أجل ترسيخ الوضع الراهن داخل حدودهم - كما يتضح من الحرائق العنيفة في سوريا والعراق وليبيا واليمن.

مصـــــر

 في مصر، لا تكتفي حكومة عبد الفتاح السيسي بإطالة أمد النظام الاستبدادي للرئيس الراحل حسني مبارك؛ بل إنها تتصرف بشكل أسوأ، وإذا كانت رغبة الرئيس الجديد في توسيع سلطته تشبه إلى حد ما طريقة سابقه، إلا أن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها تذكرنا أيضا بتلك التي أدت إلى الإطاحة بمبارك في يناير 2011. من هذا الانتقال الـمُجهَض، وحده الجيش يخرج رابحا. وبالتالي، لا يوجد استقرار في الأفق بالنسبة لأكبر دولة في العالم العربي، لأن العقلية العنيدة التي تميز الدولة المصرية تمنعها من إدراك التيارات الاجتماعية الهادرة تحت السطح، المستعدة للتعبئة والتحرك مرة أخرى. 

وقد ساعدت البطالة والفقر وعدم المساواة، إلى جانب الارتفاع الحاد في نسبة الشباب بين السكان، على إشعال الشوارع والإطاحة بنظام حسني مبارك قبل أربع سنوات. ولا تزال هذه المشاكل قائمة. وإذا كانت استراتيجية التنمية التي تقودها الدولة التي يرأسها الرئيس المصري تبدو مغرية، فإنها لن تنجح ما دام الجيش قوة اقتصادية رائدة، لها مصالحها المالية والسياسية الخاصة. على الورق، كل المشاريع الكبرى، مثل قناة السويس الجديدة، مذهلة. ولكنها لا تقدم الدواء الشافي لما تحتاجه مصر منذ عقود من الزمان: قطاع خاص نابض بالحياة يتعايش مع قطاع عام أكثر كفاءة، واقتصاد مدعوم بنظام تعليمي، وبنية تحتية متجاوبة مع الحاجيات. 

خلال عهد الرئيس حسني مبارك، حاولت الدولة تعزيز النمو من خلال اتباع هذا السبيل (حتى لو كان ذلك يعني تعزيز المحسوبية). من ناحية أخرى، فإن هوس الرئيس السيسي بالسيطرة على كل شيء يتطلب الحفاظ على الاحتكارات العسكرية في قلب المجال الاقتصادي، ومع نسبة نمو ضئيلة جدا نتيجة للنظام السياسي المغلق لا يزداد الوضع إلا سوءاً. لقد أصبحت الدولة المصرية مُبلقنة تدريجيا.

  وتعاني أجهزة العدالة والأمن، التي تفتقر إلى جهاز موحّد، من ظهور جيوب متعددة من الاستقلالية. وقد أفاد ذلك النظام، لأنه سمح للمؤسسات القضائية والشرطية بغزو المجال العام وقمع وسائل الإعلام واختراق "المجتمع المدني" على المستوى المحلي، وبالتالي منع ظهور حركة معارضة وطنية. ومع ذلك، فإن الفجوة بين المجتمع والدولة آخذة في الاتساع، لأن هذه لم تعد تعتبر أن السكان مواطنون يجب خدمتهم وحمايتهم بل أنهم يشكلون تهديدا يتطلب السيطرة الدائمة وهذا التصرف لا يفتح آفاقا جذابة للمستقبل. 

ولدى وصوله للحكم، تمتع السيسي ببعض الشعبية بين المصريين العلمانيين الذين يخشون جماعة الإخوان المسلمين. وهذا لا يعني أنه يحظى بدعم دائم من قاعدة اجتماعية شعبية، مستعدة لـمُساندته أثناء الأزمة التي من المؤكد أنها سوف تندلع. كان مبارك يعتمد على الحزب الوطني الديمقراطي المهيمن، الذي سمح له بالبقاء في السلطة لما يقرب من ثلاثة عقود. ومع ذلك، لم يستطع حتى الحزب الوطني منع ثورة يناير. لم يخلق السيسي مثل هذه البنية التحتية التنظيمية، بل اكتفى فقط بإدامة عقلية الدولة الاستبدادية.

وفي ظل هذه الظروف، يعتقد النظام أنه يستطيع الاستفادة من اندلاع الصراعات الإقليمية. منذ الانقلاب الذي وقع في يوليو 2013 ضد الرئيس محمد مرسي، جرّت مصر دولا أخرى، مثل المملكة العربية السعودية والأردن، إلى حملة للقضاء على جماعة الإخوان المسلمين، بدءا بنسختها الـمصرية التي لم تتعرض لهذا القمع العنيف منذ زمن جمال عبد الناصر (1956-1970). لقد فر معظم قادتها أو يقبعون في السجن، وقتل الآلاف من النشطاء على أيدي قوات الأمن، ولا يزال عشرات الآلاف رهن الاعتقال في انتظار محاكمات صورية. حاولت قطر دعم جماعة الإخوان المسلمين، لكن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تعتبرانها تهديدا. وقد دفعت هذه الدول إلى مصر مليارات الدولارات كمساعدات اقتصادية منذ الانقلاب لتخفيف أزمتها المالية. وقد تصرفت المملكة العربية السعودية، على وجه الخصوص، كما فعلت في الستينيات، عندما كانت محاطة بالقوات الناصرية والبعثية. وفي نظر الرياض، يمثل الإخوان المسلمون تهديدا عابرا للحدود الوطنية يمكن أن يستولي على الخليج. 

بيد أن هذه التدفقات المتوالية من الـمساعدات من دول الخليج النفطية ليست هي الحل، على الأقل لأنها تزيد من التوترات في شبه الجزيرة العربية. وفي مصر، يتسبب ضخ السيولة الأجنبية – الضخمة - في ارتفاع التضخم. كما أن هذا الضخ يزيد من اعتماد نظام الريع، الذي لا يشجعه التمويل الخارجي على اتخاذ التدابير المكلفة ولكن الضرورية اللازمة لتنمية الاقتصاد.

اليمن

 مع انغماس مصر في الحكم الاستبدادي، تعاني اليمن وسوريا والعراق من صدمات العنف والحروب. وفي اليمن، سحقت جماعة أنصار الله، الذراع العسكرية لحركة التمرد الحوثية، كل مقاومة، ومنذ سبتمبر الماضي، سيطرت على العاصمة صنعاء. لا ينبغي الخلط بينه وبين أعضاء جماعة أنصار الشريعة، وهي جماعة مقربة من تنظيم القاعدة أما المتمردون الحوثيون فهم أتباع الطائفة الزيدية وهي فرع من الإسلام الشيعي. وتعمّد جيش النظام السابق تمهيد الطريق أمام هجمات الميليشيات دون إبداء أية مقاومة. وسرعان ما تجاوزت قيادة الحوثيين قوات المعارضة القائمة، مثل حزب الإصلاح. وفي الوقت نفسه، قامت القوات الانفصالية بتمزيق الدولة في أجزاء أخرى من اليمن، مثل الصراعات الانفصالية في حضرموت والجنوب.

لم يظهر الحوثيون على الرادارات الغربية إلا قبل بضع سنوات. اعتبرت المذاهب السنية السائدة أن المذهب الزيدي قريب جدا من المذاهب السني لدرجة أنها وصفته بالمدرسة الخامسة للفقه الإسلامي. لكن الحوثيين تلقوا دعما وشرعية مستمرة من إيران. وترى طهران في اليمن ساحة للتنافس مع المملكة العربية السعودية التي تعتبر البلاد تقليديا امتدادا لأراضيها. 

 ونتيجة لذلك، تم تشكيل تحالف عبر وطني للأقليات الدينية، وهو وضع يشبه إلى حد كبير ما حدث في لبنان وسوريا. ويعتبر العلويون السوريون الآن جزءا من المشهد الشيعي، الذي يبرر تدخل «حزب الله» لصالح النظام السوري. وبنفس الطريقة، اكتسبت جماعة أنصار الله، من خلال رعايتها الإيرانية، مستوى من المصداقية الشيعية يضع الجماعة بالكامل على الجانب الإيراني في هذا الصراع الإقليمي. وبفضل المساعدات المالية والموارد العسكرية التي حصلت عليها، أصبحت الحركة الزيدية أيضا طرفا فاعلا في الدولة، مثل "حزب الله" في لبنان. 

سوريا

 خلال "الربيع العربي"، كانت سوريا من أوائل الدول التي شهدت احتجاجات سلمية. وهذه اللحظة التي كانت فيها الديمقراطية ممكنة أفسحت المجال لحرب أهلية واقتصاد حرب وكارثة إنسانية تزداد سوءا. إن نظام بشار الأسد لا يتمتع الآن إلا بما يشبه السيادة، حيث يسيطر على الأراضي الوطنية خارج دمشق من خلال نقاط التفتيش العسكرية، وهو غير قادر على فرض وجود قانوني ومدني حقيقي وقد فقدت الدولة الكثير من البنية التحتية التي كانت تملكها، بعد أن عجزت عن توفير الخدمات الاجتماعية والاقتصادية التي تعزز شرعيتها. وفي مقابل ذلك، تحولت منظمات المعارضة الأجنبية وجماعاتها إلى قوات احتلال عسكرية تتميز بتنوعها الكبير، وهي حقيقة غالبا ما تتجاهلها وسائل الإعلام الغربية. وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ليس هو جبهة النصرة. 

هذه الأطراف ليست متحدة. في سوريا، تنظيم «الدولة الإسلامية» ليس منظمة تطمح إلى أن تصبح "دولة" بالمعنى الحرفي أكثر بل كونفدرالية جهادية تحاول التحول إلى إمبراطورية. 

وعلى غرار العثمانيين، يدير تنظيم «الدولة الإسلامية» أراضيه من خلال تكليف الفصائل المحلية بإدارته. وقدرته الوظيفية محدودة بوصفه دولة مركزية. إن عمليات قطع الرؤوس المرعبة التي أوردتها وسائل الإعلام لا تشهد على نظام جديد للشريعة الإسلامية من شأنه أن يكون مؤشرا على نظام سياسي جديد. 

بل هي حملات علاقات عامة تهدف إلى زيادة عدد المجندين. وهنا تكمن المشكلة. ونظرا لهذا الإطار شبه الإمبراطوري، لا يملك تنظيم «الدولة الإسلامية» القدرة على التصرف كدولة حقيقية، سواء من حيث التنظيم المؤسسي أو تحصيل الضرائب لأن نموذجها هو نموذج الغنيمة، التي يتخاصم المقاتلون حول اقتسامها وهو نظام ينجح بشكل جيد في البوادي ولكنه أثبت أنه غير مناسب لإدارة مدن بأكملها.

 وفي هذه الفوضى، اعتمد نظام الأسد استراتيجية بسيطة: الاستمرار في الوجود. وهي لا تحتاج إلى استعادة الأراضي المفقودة لكسب هذه الحرب. وبعد أن فقد رصيده، لا يمكنه أن يختار استراتيجية للخروج من خلال إجراء الإصلاحات السياسية التي طالب بها المتظاهرون سابقا. وطالما لم ينهار النظام، فإنه يمكن أن يزعم أنه حقق انتصارا مزيفا وهذا ما يفسر سياسة الأرض المحروقة التي ينتهجها. فقوات النظام، التي تخلت الآن عن الحفاظ على سوريا القديمة، تدمر المدن والقرى التي تهيمن عليها جماعات المعارضة، والمبدأ هو أنه إذا لم تتمكن دمشق من الاستيلاء عليها، فلن يتمكن أحد من ذلك. 

هذه المجزرة هي إلى حد كبير نتيجة لتدخل الجهات الخارجية. والتدخلات الإقليمية في سوريا معروفة جيدا. تتزعم الولايات المتحدة تحالفا من الدول الغربية والعربية التي تقصف تنظيم «الدولة الإسلامية»، وهو ما يصب وللمفارقة، في مصلحة نظام استبدادي أعلنت واشنطن أنه غير شرعي. ومن بين شركائها تركيا والأردن ومصر والمملكة العربية السعودية ومن جانبه، يمكن لنظام الأسد أن يعتمد على المساعدة الاقتصادية والعسكرية من حزب الله وإيران، فضلا عن تواطؤ روسيا. 

قبل صعود داعش وجبهة النصرة، كانت هذه الدول العربية السنية قد سجلت سوريا ضمن “هلال شيعي" يمتد من لبنان إلى إيران. فقد سعوا إلى طرد الرئيس الأسد، مما أجّج الانقسامات الطائفية داخل شعوبهم. وأجبروا على تغيير مسارهم ومواجهة مشكلة الجهاديين. وإيران وحدها هي التي حافظت على موقفها الداعم للنظام السوري، وهو ما يكشف عن تطور حتميتها الثورية. بعد أن عجز قادة إيران عن نشر الثورة في شوارع الدول العربية بعد عام 1979، دخلوا الساحة الإقليمية من خلال الجغرافيا السياسية، مستغلين التوترات في سياق هذه الحرب الباردة الجديدة.

 غير أن هذا الخطاب الطائفي يجب أن يكون موضع تحذير. فولادة تنظيم «الدولة الإسلامية» ليس نتيجة انقسام بين السنة والشيعة، كما قد كان يبدو من قبل، على الرغم من أن مقاتليه شنوا حملة ضد الطائفة الشيعية. بالنسبة للكثير ين فإن تجنيد الشباب للقتال في سوريا ظاهرة ينبع أقل من استيعاب ا لخطاب الديني بل من نتيجة السياسات الكارثية، حيث يجتمع غياب المساواة الاجتماعية والركود الاقتصادي والمآزق السياسية لحرمان المواطنين من كرامتهم. لقد قدمت جميع الدول العربية تقريبا متطوعين إلى داعش، بدءا من تونس والمملكة العربية السعودية والأردن ومصر.  ومن المفارقات أن بعض هذه البلدان تدعو إلى القضاء على المنظمة. هذه الملاحظة تزعج الأفكار الكلاسيكية حول الإرهاب والتطرف: لطالما كان يعتقد أن الإرهابيين المتطرفين يمكن هزيمتهم بتجفيف قوتهم القتالية وتمويلهم ومقدساتهم. يثبت تنظيم «الدولة الإسلامية» أن هذا غير صحيح وأن التطرف العنيف يمكن أن ينشأ من لا شيء تقريبا. وبعد سنوات قليلة من اعتقاد الغرب بأنه هزم تنظيم «القاعدة»، يواجه اليوم نسخة رمزية جديدة ذات حدود إقليمية لهذه الظاهرة التي عندما هوجمت على "أراضيها “، كان رد فعلها هو الانتشار في أماكن أخرى. وقد أظهرت في أوروبا قدرتها على استغلال ثغرات القارة العجوز.

 

العراق

 كما ينشط تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق، لكن وجوده يحجب مشاكل أكثر جوهرية تتعلق بالتفكك الاجتماعي وعدم المساواة السياسية. إن داعش جزء من نمط أوسع من المقاومة السنية والانتفاضة ضد الانتهاكات من قبل حكومة يهيمن عليها الشيعة أنشأتها الولايات المتحدة بعد عام 2003. وبالنسبة للعديد من العراقيين السنة، لا يشكل العنف المحتمل لداعش تهديدا أكبر من الوحشية التي ترتكبها الميليشيات الشيعية التي تدعم مختلف الشخصيات السياسية، مثل رئيس الوزراء السابق نوري المالكي. شعر العديد من هؤلاء السنة بالخيانة بعد ظهور الصحوة، وهي ميليشيا سنية تدعم الحكومة، ونشر قوات أمريكية إضافية تحت قيادة الجنرال ديفيد بترايوس في عام 2007، مما ساعد على استقرار البلاد. 

ومع ذلك، وهنا أيضا، يجب الانتباه بحذر إلى البعد الطائفي. لقد أدت علاقات إيران مع الحكومة العراقية في فترة ما بعد الحرب إلى تضخيم وتشجيع الـميز الطائفي الذي لم ترغب الولايات المتحدة في تصفيته، ووصل الآن إلى عتبة غير مسبوقة في تاريخ العراق الحديث. ويجمع الانقسام الطائفي، الذي يستغله المناخ الإقليمي ويتفاقم بسببه، بين الفجوات الاجتماعية الحقيقية والتدخل الجيوسياسي، مما يجعل النتيجة أكثر غموضا. 

 ونلاحظ هناك أيضا تغييرا رئيسيا آخر في الواقع الاجتماعي في سوريا والعراق. قبل "الربيع العربي"، كان المواطنون رعايا من المفترض أن يدينوا بالولاء للدولة. ومع انهيار السلطة الاحتكارية للدولة، يسعى الجميع إلى الأمن من خلال اللجوء أولا إلى الأطراف الفاعلة المحلية ومنه على مستوى الأحياء والميليشيات.

 

الآفاق الإقليمية

 إن الانقسامات الإقليمية هي نتيجة لعمل العديد من الأطراف، ولكن الخيط الناظم الـمشترك واضح الآن. إن مخاوف التحالف العربي السني لا تتعلق فقط بخصومه الإقليميين، مثل إيران، أو بالتهديدات الأيديولوجية، مثل جماعة الإخوان الـمسلمين، بل بدأ يظهر تهديد ثالث، داخل هذه المرة: إنه مجتمعهم. وللأسف، تعامل هذه البلدان الأصوات المعارضة بعين العداوة والتشكيك. ومع ذلك، فإن هذه الأنظمة السياسية مخطئة برفضها اغتنام الفرصة التي أتاحها "الربيع العربي" للنظر إلى الداخل والاستجابة بفعالية للمطالب الهائلة بالحرية والكرامة لشعوبها. فهي تختار نهجا مليئا بالمخاطر السياسية على المدى المتوسط والطويل. إنها تتصرف بانفعالية وتصدّر   مشاكلها إلى المستوى الإقليمي دون معالجة أوجه القصور الداخلية. 

وقد أظهر الانخفاض الأخير في أسعار النفط أن هذه الحرب الباردة الإقليمية الجديدة يمكن أن تشهد انتكاسات كبيرة. وحتى الآن، كانت لإيران اليد العليا في الصراع الطائفي مع المملكة العربية السعودية ودفعتها سياستها الإقليمية الأكثر تماسكا إلى التدخل مباشرة في حروبها بالوكالة دون اللجوء إلى الوسطاء. إن استراتيجية المملكة العربية السعودية أكثر تشتيتا، حيث إن السياسة الخارجية في أيدي أطراف متعددة، من الأجهزة الأمنية إلى أمراء صنع القرار مرورا بوزارة الخارجية، ولكل منها وسطاء خاصون بها في الخارج. 

وعلاوة على ذلك، وعلى عكس المملكة العربية السعودية، تتمتع إيران بنموذج للسيادة الشعبية يسمح، على الرغم من أنه حر جزئيا فقط، بإجراء انتخابات نزيهة ووجود تعددية خاضعة للسيطرة، حتى لو ظلت السلطة في نهاية المطاف في أيدي المرشد الأعلى. 

وأخيرا، تسببت إيران في مشاكل في جزء كبير من الخليج من خلال دفع المصالح الأمريكية إلى الالتزام باتفاق نووي، مما بشّر باختراق دبلوماسي كبير. إن انخفاض أسعار النفط يعيد توزيع الأوراق وأداء المملكة العربية السعودية، لذي يدفع في اتجاه هذا الانخفاض، أصبح أفضل بسبب   احتياطاتها المالية الضخمة. ومع ذلك، تخاطر الرياض باحتمال مواجهة مع إيران وفقدان الوسائل لدعم أنصارها الإقليميين. وبالنسبة لكلا البلدين، تجري المعركة النهائية الآن في سوريا. 

وهكذا غيرت الحرب الباردة الإقليمية الجديدة المشهد الجيوسياسي للشرق الأوسط إلى حد كبير. ولأول مرة في تاريخ المنطقة الحديث، لا تشكل القاهرة ودمشق وبغداد القوى الإقليمية المهيمنة. تعاني هذه البلدان من توابع "الربيع العربي" وهي مسرح لاحتجاجات يشارك فيه فاعلون خارجيون. والدرس واضح: لا أحد، مهما كان قويا، يفلت من قواعد التاريخ. 

وعلى النقيض من ذلك، فإن تونس مثال بنّاء للمنطقة من حيث الوعود الديمقراطية. إن التنازلات المتبادلة بين القوى الإسلامية والعلمانية التي توصلت إليها هذه الدولة التي تمر بمرحلة انتقالية، فضلا عن انتظام الانتخابات الديمقراطية وسيادة القانون، تثبت أنه من الممكن تحرير الذات من الإرث الاستبدادي. وإذا عادت الديمقراطية التونسية إلى الظل، فإنها رمز للأمل بالنسبة للديمقراطيين وشوكة قاسية في أقدام   الأنظمة الاستبدادية التي ستختفي. 

وفي ضوء هذه الأحداث، لم تعد الولايات المتحدة القوة المهيمنة بلا منازع في المنطقة. ويعكس تخليها الواضح عن الشؤون الإقليمية نقطة تحول هامة في استراتيجيتها الشاملة. لقد تعلم الأمريكيون من فشلهم في أفغانستان والعراق. 

ومن جانب آخر أصبحت آسيا الآن أكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية من الشرق الأوسط. ولم تعد السيطرة على العالم مصحوبة باحتلال المساحات الترابية بل بالسيطرة على الأسواق المالية وطرق التجارة البحرية. وستظل واشنطن تسعى إلى السيطرة على تدفق النفط الإقليمي، ولكن من خلال تنظيم الصنبور بدلا من البئر. باختصار، نحن لا نشهد فك ارتباط الولايات المتحدة ولكن إعادة صياغة السياسة الأمريكية.

غير أن درسا من التاريخ سيكون قد أظهر قدرته على الصمود. وقد أظهرت الحدود الجغرافية التي حددتها اتفاق سايكس بيكو صمودا غير متوقع، باستثناء كردستان. ولا تقاوم الأطراف الفاعلة في المنطقة لإعادة رسم الخريطة، بل للسيطرة على الحدود الحالية. ولا تزال الحكومات والشعوب تتعلق ضمنيا بالفكرة المقدسة بأن هذه الحدود تمثل آخر ضمانة للاستقرار في الشرق الأوسط.  وهي واقع حدود اجتماعية في أفضل الأحوال وفي أسوئها. ففي نهاية الأمر، من المتوقع أن يعود كل لاجئ يقع ضحية للأزمات الأخيرة إلى وطنه. وأيا كان الفائز في الصراعات الأهلية في ليبيا وسوريا والعراق واليمن، فليس من المتوقع أن تغير هذه الدول شكلها. والرأي السائد على نطاق واسع هو أنه إذا اختفت الحدود الجغرافية القائمة، فإن عدم الاستقرار الحالي سيتحول إلى دوامة من الفوضى.



(1) Lire Laurent Bonnefoy, « Retour des chiites sur la scène yéménite », Le Monde diplomatique, novembre 2014. 177

(2) Comme l’a souligné le politiste Gilles Kepel, l’un des penseurs de la mouvance djihadiste, Abou Moussab Al-Souri, a théorisé dans son Appel à la résistance islamique mondiale la nécessité d’un tel déplacement stratégique.

الربيع العربي: إلى أين تسوقه الرياح؟

ديسمبر 2015

منذ موجة الثورات التي ابتدأت في تونس شهر يناير2011، يبدو أن “الربيع العربي” قد وقع بين فكي انبعاث الدولة السلطوية، ثم عودة الجهاديين من جهة ثانية، غير أن مطلب الكرامة والتطلع إلى الحرية لم يختفيا

يظهر أن العالم العربي يواجه تحديات تشكل أمامه عقبة عليه التغلب عليها إذا ابتغى مستقبلا أكثر هدوء وديمقراطية واستقرارا. تتمثل هذه التحديات أساسا في سياسات الارتداد التي تنهجها الدول السلطوية، قصد التصدي للتطلعات التي تشرئب نحو التغيير. هكذا، التبس المسار الثوري، لاسيما مع مستجدات الرهانات الجيوسياسية والطائفية، المطروحة مع ظهور تنظيم “داعش”.

إن العديد من الأنظمة العربية ينطبق عليها تعريف جون بيير فيليو باعتبارها” مماليك انحدرت إلى الزمن المعاصر”. تاريخيا، نعلم أن المماليك هم جنود من طبقة العبيد أتت بهم الدولة العباسية (750-1258) من الأراضي المتواجدة خارج الدولة الإسلامية. وأمام أعين مسؤوليهم، وعلى أساس عدم انتمائهم للعنصر العربي، لم يكن لنزاعات الولاء، التي زرعت الشقاق ضمن عائلات كثيرة وقبائل وطوائف، أي تأثير على هؤلاء المجندين الجدد.

مع مرور السنين، امتلك المماليك نفوذا سياسيا وعسكريا انتهى، في القرن الثالث عشر، بإزاحة أسيادهم ثم الاستيلاء على السلطة في مصر والخليج. لقد فرضوا أنفسهم بسهولة، قدر عدم ارتباطهم بالمجتمعات التي كانوا يشرفون على شؤونها، بالتالي ليس لهم جماعات مساندة أو مناصرة يراعون لها جانبا. هذا منحهم بشكل واسع حصانة، اللهم ما تعلق بالغزوات الخارجية. هذا الإرث الأوتوقراطي أرسى دعائم الجمهوريتين العسكريتين العربيتين، في سوريا ومصر. أنظمة تعتبر، في الوقت ذاته، مُؤتمنة على قوة الدولة، ثم غريبة عن مجتمعاتها، التي كان قدرها أن تُحكم دائما بقبضة من حديد. في بعض البلدان، تعود حالة الفكر هاته إلى الفترة الكولونيالية. في مصر، انبثق الإرث المملوكي مع بدايات القرن التاسع عشر باسم الدولة المدنية التي بلورتها إصلاحات محمد علي، الذي حكم ما بين سنة 1805 و1849.

لمواجهة “الربيع العربي”، ارتكز "رد الفعل المملوكي"، كي يدافعوا بمختلف الوسائل، عن تلك الامتيازات التي أضحت بمثابة حقوق مِلْكية. يتوخى الماسكون بالسلطة ضمان عدم سقوط الدولة بين أيادي قوى مجتمعية أخرى، يعتبرونها من طبقة دنيا. لقد انتهت ثورة 2011 في مصر بإزاحة حسني مبارك، غير أن الانقلاب الذي تزعمه الجنرال عبد الفتاح السيسي، شهر يوليوز2013، ضد حكومة الإخوان المسلمين، أظهر التصميم غير العادي للعسكر بعدم التنازل، ولو على الفتات من امتيازاتهم. أما في سوريا، فالشراسة التي تصدى بها نظام الأسد للتظاهرات السلمية، أكدت عجز السلطة عن التسامح مع أبسط تشكيك في شرعيتها.

عمليا، وطدت النزاعات الجيوسياسية الأنظمة المعادية للثورة. لقد سمح لهم التهديد المتنامي للتوسع الشيعي بشيطنة كل معارضة داخلية، وسحقها بقمع مفرط، تحت مبرر الأمن الوطني.

مثال آخر عن هذا الالتقاء المميت: البحرين، بالنسبة لمسؤولي هذه المملكة السنية الصغيرة، فالمعارضة التي برزت خلال لحظة” الربيع العربي” لم تكن سوى دمية تحركها أيادي إيران، التي تحرض ساكنة شيعية تشكل الأغلبية داخل البلد، علما أن ارتجاجات التطلع إلى إصلاحات ديمقراطية لم تتوقف في البحرين منذ سنة 1971. وضعية معكوسة بالنسبة لسوريا، فالأسد المدعوم من طرف طهران يتهم المعارضة بكونها تؤدي لعبة سنية متآمرة، تحركها الولايات المتحدة الأمريكية بهدف السيطرة على الشرق الأوسط. إذن، الخوف من رؤية المنطقة مكتسحة برمتها سنيا، يفسر ماهية هذا التحالف المؤيد للأسد، القائم على فسيفساء واسعة من الأقليات، تبدأ بالعلويين السوريين ثم الشيعة اللبنانيين لحزب الله، مرورا بالحوثيين في اليمن.

منذ حقبة” الربيع العربي”، ازدادت قوة النزاع السني-الشيعي. من بين العوامل التي عجلت بهذا الأمر، نجد تراجع أسعار البترول، ثم إبرام الاتفاق الدولي حول المشروع النووي الإيراني، لكن أيضا النظر إلى كل تعدد سياسي كتهديد للأمن الداخلي. مثلا في مصر، نتج عن عودة النظام العسكري قمع شرس للإخوان المسلمين، المتهمين بالإرهاب، بينما هم أقلعوا عن تبني العنف وكذا الصراع المسلح. لم يكابد هؤلاء ومعهم المعارضة المصرية اضطهادا بهذا الحجم، منذ سنوات 1950. إستراتيجية السلطة المناهضة للإرهاب تتم وفق صيغة تخمين التحقق الذاتي: القمع العسكري- البوليسي، يستفز ويثير ردود فعل عنيفة، التي تبرر ثانية نظاما أكثر قسوة.

إن أنظمة المماليك المعاصرة هاته توظف مسألة الخوف من الجهاديين، كي يغمض الغرب أعينه على بطشها، ويعود إلى سياسة دعمه اللامشروط لسياساتها السلطوية. وهو وضع يشجعهم كي يمارسوا لعبة مزدوجة: التصدي للتطرف داخليا، ثم، في الآن ذاته، العمل على تفعيل سياسات توطده خارجيا.

هكذا، في ليبيا سُمح عمدا لقوى الجنرال حفتر، بدعم أوروبي وأمريكي، كي تسيطر على منطقة سيرت، وفضلوا تكريس كل جهودهم لقتال حكومة طرابلس المنافسة. في سوريا تفاعل الأسد مع “الربيع العربي” بأن أطلق سراح العديد من الإسلاميين المعتقلين، ثم ملأ السجون بمناضلين من جماعات معارضة أخرى. أما عن اليمن، فقد صنفت الحكومة الحوثيين كجماعة إرهابية تخدم المصالح الإيرانية، وفي المقابل تفاوضت مع القاعدة. أما إذا عرجنا على النظم الملكية الخليجية، فهي لا تتردد في نعت “داعش” كعدوها اللدود، بيد أنها لا تفعل شيئا يذكر -أو قليلا جدا- من أجل منع الجماعات النشيطة فوق أراضيها من تقديم الدعم المادي للتنظيمات الإسلامية المسلحة خارج حدودها. ازدواجية كهذه تشير إلى أن أغلب الدول العربية، وعلى العكس من إقراراتها، ليست في عجلة من أمرها بخصوص اختفاء التهديد الجهادي، مادام يمنحها مبررا لكبح كل إصلاح ديمقراطي.

إن الاستفادة على المدى القصير من هذا السبيل تجازف، عاجلا أم آجلا، بالاصطدام مع الطبيعة غير المتوقعة للسياق الثوري. لقد أعلن الملاحظون الغربيون، تقريبا، عن موت” الربيع العربي”، إنها قضية مفروغ منها بحسبهم: وحدها الديمقراطية التونسية الهشة لازالت تطفو فوق أرض الخراب. هناك تشخيص يتقاسمه المسؤولون العرب يتمثل في العمل على تقليب صفحة شكلت لهم ذكرى سيئة. بالتالي فعودة العصا من أجل معاقبة المطالب الديمقراطية في دول كثيرة له بالتأكيد ما يبرره حسب تصورهم. لكن التاريخ يعلمنا أن الثورات، على منوال الأمواج، تتدفق بكيفية دورية: تنبعث على نحو حتمي مطالب الكرامة والحرية، سواء كانت الحكومات مهيأة لذلك أم لا.

أما اليوم فإن هدوء الشارع لا يعني قط اختفاء المسار الثوري. القضايا التي أفرزتها الموجة الأولى لسنة 2010 لم تتبخر بل على العكس، نسبة البطالة في جل البلدان العربية دائمة الارتفاع، كما الحال قبل خمس سنوات. الاقتصاد لازال مصابا بالوهن، الإدارة بلا فاعلية، كما أن الاقتصاد الخاص لم يتخلص بعد من لغة التلعثم. داخل هذه المجتمعات يتردد دون توقف صوت أعداد كبيرة من الشباب الذي يعيش غليانا، أخفقت حكوماته حتى الآن كي تقدم له الرؤى. أيضا، تصر منظوماتنا التعليمية على أن تصنع التميز بالمال عوض الاستحقاق، وإنتاج ورثة لا يملكون الكفاءات الضرورية تؤهلهم لخوض التنافس في الأسواق العالمية.

والأكثر سوء هو أن يواصل المسؤولون حظر حق الكلام عن المواطنين. إن تواطؤ الطبقة السياسية والأوساط المالية يبقى غير قابل للاختراق، مما يفسح المجال لنخبة صغيرة متمسكة بامتيازاتها كي تتحكم ليس فقط في أجهزة الدولة، لكن أيضا في ثروات البلد، بالتالي لا نستغرب كون أسطورة النمو لم تعد، يوما بعد يوم، تلهب مخيلة شعوب المنطقة، وقد جرفتها بلاغات رسمية مضلِّلة حول نمو الناتج الداخلي الخام، وهي تلاحظ أنها لا تخلق وظائف للعاطلين ولا مستقبلا للشباب. ازدياد الفوارق الطبقية، انعدام البنيات التحتية، تخلف النظام التعليمي، الفساد المستشري: لا واحدة من هذه المساوئ وجدت لها جوابا منذ 2010.

إما الشروع في الإصلاح أو انتظار الثورة القادمة

إذا استمرت المشاكل البنيوية، أو تفاقمت، سيعرف النسيج المجتمعي والثقافي للمجتمعات العربية تغيرا جليا. لم يعد المواطن العادي يعيش في إطار الخوف من السلطة، لذلك لم يعد بالإمكان إخضاعه بالسهولة المفترضة، بالإكراه أو التأطير الإيديولوجي. أو بالأحرى، لقد غير الخوف موضوعه، بحيث تتركز الخشية حاليا حول تمدد “داعش” خاصة والجهاديين، وكذا انهيار دولتي سوريا واليمن. هذا التوجس الجديد المهيمن حاليا في كل مكان يفسر عدم التفات العديد من المواطنين، إلى الحديث عن إمكانية إصلاح ديمقراطي. خيبة الأمل هاته تضاعفت نتيجة فشل الحركات الثورية في مصر وليبيا، دون الحديث عن المغرب والأردن، حيث تعثرت التطلعات نحو التغيير أمام أبواب القصر الملكي. لا شيء يثير الاستغراب، كون تمازج المخاوف والإخفاق خلق مناخا من الخمول المجتمعي، لذلك فمساندة النظام، في أكثر الأحيان، تترجمه فقط محاباة منقادة، نظرا لغياب حلول أخرى ترفع لواء التغيير.

غير أن الخوف، والخيبة، وفتور الشعور، هي حالات ذهنية عابرة، لا يمكن للمسؤولين الاستمرار في تغذيتها بطريقة أبدية، رفضهم اقتراح إصلاحات جديرة بالتصديق يضع الجمر في الرماد منذ خمس سنوات، فمن المحتمل أن الأسباب نفسها تنتهي مع أقرب فرصة ببلورة النتائج ذاتها، بالتالي يجدر بهم الاختيار بين: الشروع في تفعيل إصلاحات آنية، أو ترقب اندلاع ثورات جديدة.

هناك مؤشرات عدة توحي أن هذا المأزق قد يغدو سريعا ضاغطا. لبنان، على سبيل الذكر، يعرف، منذ الصيف الأخير، تظاهرات حاشدة بسبب عجز الحكومة عن تأمين جمع النفايات، فالحنق حيال الأزبال المتراكمة في الشوارع قد يعبئ فعلا دون اعتبار لمسألة التباينات الدينية والإثنية، لأنه يمنح الفرصة للبنانيين، لاسيما الشباب، كي يعبروا عن حرمان أكثر استفاضة وعمقا. لا يتعلق الأمر فقط بفضح تهاون الحكومة، لكن أساسا الإطاحة بنظام طائفي باطل، حتى ولو وفر للبلد خلال فترة طويلة ما يبدو أنه استقرار سياسي. لقد طالب المتظاهرون بتكريس نظام أكثر ديمقراطية، يضع جميع اللبنانيين على قدم المساواة، عوض مركزة السلطة بين أيادي نخب هرمة اختيرت على أساس معايير عتيقة.

منذ أشهر قليلة تحولت الجزائر إلى مسرح لحركة مجتمعية غير مسبوقة، فالإعلان عن استغلال الغاز الصخري في الصحراء، أجبر ملايين من سكان تلك المنطقة الفقيرة والقاحلة كي يبادروا إلى إعلان رفضهم المزدوج، للأضرار المحتملة الناتجة عن التكسير الهيدروليكي، وكذا نموذج تنموي يتحايل على الخيرات الطبيعية. نضال كهذا، يكتسي دلالة خاصة، إذا تذكرنا أن” الربيع العربي” الجزائري ينهل من روافد أكثر قدما، أي تلك التظاهرات الهائلة التي تعود إلى سنة 1988، تنشد التغيير والديمقراطية، ثم بعد ذلك فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية بالانتخابات، وانقلاب العسكر على النتائج، وما ترتب عنه من حرب دموية. منذئذ، رافق هذه التراجيديا نزاع بين الدولة والمجتمع إذن، وإن كانت صراعات مشتتة ومتفرقة تنبثق هنا أو هناك فهي تؤكد بأن فكر2010 لم ينطفئ بعد.

إن الدرس الأساسي الذي نستخلصه من “الربيع العربي'” مفاده أن تحقيق تحول سياسي واجتماعي يتطلب أكثر من مجرد تحركات منتظمة. فرغم نجاح مطلب إسقاط ديكتاتور، يبغضه الجميع، يجب على القوى المعارضة التوفر على قدرات تنظيمية وكفاءات سياسية، وهو الجانب الذي افتقدته المعارضة المصرية بعد انتصارها السريع سنة2011. عجزها عن التصدي لصعود العسكريين من جديد، بقي في ذاكرة الكثيرين كبداية لنهاية “الربيع العربي”. صحيح أنه بالنسبة تقريبا لكل البلدان المعنية فقد ارتكب زعماء المعارضة الأخطاء القاتلة نفسها. لكن هل استخلصوا العبرة، وتهيؤوا أفضل لعودة الربيع الثانية؟

السيناريو ذاته يفترض كذلك أن نتجاوز، قبل كل شيء، عقبة أخرى جد مخيفة، تمثلت في ظهور “داعش”. التنظيم الذي يعود انبثاقه وظهوره السريعان إلى ضعف الدول التي زحف عليها من جهة، ثم اللعبة المدمرة للتنافس الجيوبوليتيكي والتدخلات الأجنبية. لقد أرادت سخرية القدر أن ينبعث “داعش” فوق أرض العراق وسوريا، البلدان اللذان اعتبرا، لردح طويل من الزمان، نموذجا للاستقرار واستحالة النفاذ نحو التغيير، خاصة بسبب الهيمنة التي يمارسها جهاز الدولة على المجتمع. وإذا كانت شراسة “داعش” تطبع مرحلة جديدة من تحول الإيديولوجيا الجهادية، فإن المادة البشرية الضرورية لنموه نمت سلفا في المكان عينه.

لم يتطلب تمدد “داعش” داخل سوريا فقط مجندين أجانب، بل وجد دعما محليا، نظرا لعدم اهتمام الدولة السورية بالتفاعل مع حاجيات شعبها، مما أفسح المجال لنمو جيوب الفقر والحرمان، التي وظفت بيسر من طرف تنظيم مجهز جدا. أما بخصوص العراق، فقد عثر التنظيم على مجال خصب وملائم في حضن الجماعات السنية، التي عانت الإقصاء من طرف حكومة النوري المالكي، بعد تفكك جهاز الدولة، جراء الاجتياح الأمريكي. هذا الأخير، ارتكز على ميليشيات شيعية تخلق الرعب بابتزازها، والتي نهبت، باستخفاف، بقايا العتاد العسكري للجيش العراقي السابق، ثم وفر لها حزب الله الإطار على مستويات التنظيم والدعاية وكذا القوة العسكرية. بهذا المعنى، لا يجسد “داعش” مجرد قوة مستوردة، بل هو كذلك تفاعل محلي ضد اضطهاد الحكومة المركزية. أيضا، هو تحالف لقوى تتعايش في ظلها الأقلية المسيحية، مع مكونات قبَلية متعددة وجماعات محلية، عانت التمييز الذي مارسه فيما مضى ضباط نظام صدام حسين. لكن تنبغي الإشارة إلى أن “داعش” يختلف عن “القاعدة” على مستويات أساسية عديدة:

* تتصور “القاعدة” الجهاد بمثابة عملية محض عسكرية، وليس بقضية تستهدف السيطرة على منطقة أو توطيد مؤسسات، مادامت تحدد نفسها باعتبارها شبكة من المقاتلين الرٌّحل، يؤجلون قطف ثمار حربهم إلى ما بعد حياتهم على الأرض. أما أهداف “داعش”، فيتوخى التحقق الفوري: ليس للعنف نهاية، لكنه اجتياح للأراضي، ثم تنصيب حكومة واستغلال مختلف الموارد الجغرافية والزمانية.

* تنتقي “القاعدة” بدقة أعضاءها، وتفرض عليهم مقتضيات صارمة، بينما “داعش” فيترك المجال مفتوحا للالتحاق بصفوفه، والخاصية الوحيدة المطلوبة هي التحفز.

* تتألف “القاعدة” حصرا من مقاتلين، وتطمح كي تصير تجمعا بشريا، لذلك تحتاج إلى نساء وعائلات وأطفال، وفيما يتعلق بالمجندين الأجانب، فيرتكز دورهم بشكل أقل على حمل السلاح، بينما الأهم ترويجهم لصورة مثالية عن جماعة المؤمنين، بواسطة رسائلهم الدعائية الموجهة نحو العالم الخارجي.

لا حاجة للتذكير أن مفهوما كهذا للدولة يمثل استفزازا، إن لم تكن بدعة، بالنسبة لعموم السنة أنفسهم، مما يفسر هذا التحالف الواسع جدا للدول العربية. غير أنه لا يمكننا فهم الظاهرة “الداعشية” دون استحضار سياق التدخلات الخارجية. التهديد الجهادي يساعد في الواقع قوى مثل روسيا وتركيا كي تعثر على حجة قصد توطيد طموحاتها داخل العالم العربي. بالتأكيد القذائف الروسية في سوريا تتساقط على “داعش”، لكنها تكشف أساسا عن سعي موسكو لتوسيع مجال تأثيرها داخل الشرق الأوسط، سعيا لبعث القوة الامبريالية المفقودة مع انهيار الاتحاد السوفياتي. روسيا، بدعمها لنظام الأسد، تدبر عملة تقايض بها أوكرانيا أو أي منطقة أخرى، يمكن للغرب أن ينازعها بشأنها.

محليا، فالهدف الاستراتيجي بسيط: الإبقاء على الوضع الراهن الذي سيضمن للرئيس السوري ملاذا مستنسخا أساسا على قاعدة طائفة العلويين، لكن من غير المستبعد أن تخفق في النهاية خطة من هذا النوع بناء على المسار العسكري. في الانتظار، يتوخون تحيين هذه المقاربة البالية، المرتكزة على ضبط الشرق الأوسط عبر أطياف الهويات الإثنية والطائفية، بدلا من تكريس مفاهيم الدول المحددة قانونيا.

ولهذا السبب كذلك يوشك التحالف الروسي-السوري، بين لحظة وأخرى، الامتداد إلى العراق. لقد عدلت بغداد تدريجيا عن مشروع العودة إلى الوحدة الوطنية، المتعددة طائفيا، مثلما كان الوضع في الماضي، وأضحت الدولة العراقية تدرك ذاتها، باعتبارها فقط شيعية، لا غير. أيضا لا مصلحة لها تذكر بخصوص استعادة المناطق الواقعة تحت سيطرة “داعش”، لأن ذلك سيجبرها على إعادة توحيد الجماعات السنية التي تبغضها. بالتأكيد تفضل الاستفادة من المظلة العسكرية الروسية التي قد تحل في نهاية المطاف محل الدرع الأمريكي.

إن مخاطر عمليات إرهابية انتقامية لا تخيف كثيرا السيد فلاديمير بوتين، بينما انفجار قنبلة داخل قطار ميترو الأنفاق، وسط عاصمة أوروبية، من شأنه إضعاف الحكومة المعنية، بالنسبة لروسيا أمر كهذا يخدم خطط رئيس الدولة: تكريس التهيب من الإرهاب، يبرر سياسة حديدية، سواء داخل البلد أو خارج حدوده. لذلك ليس من مصلحة موسكو القضاء على تنظيم “داعش” مادام يستخدم بشكل مفيد جدا لإضعاف المصالح الأوروبية، وكذا احتواء المعارضة السورية المناصرة للغرب. وإجمالا، تنظيم “داعش” يقدم خدمات للجميع: يستعمله النظام السوري من أجل التمويه عن فظاعاته، والسعودية بهدف تعزيز المعركة الأيديولوجية ضد الشيعة، وإيران بهدف تقسيم المعسكر السني، وتركيا لتصفية حسابها مع حزب العمال الكردستاني (PKK).

في حالة تركيا، تنهض أساسا استراتيجيه التوظيف الأداتي لتنظيم ـ” داعش” على حاجة داخلية، بحيث تبتغي تنصيب متاريس ضد البلبلة. التحالف ضد “داعش”، والذي تشارك ضمنه أنقرة بشكل واضح، يوفر لها غطاء كي تهاجم ليس فقط الأكراد داخل تجمعاتهم الخاصة، بل أيضا أكراد سوريا والعراق. تصعيد من هذا القبيل بوسعه أن يزيد من حدة عدم الاستقرار العام، وخلق محور جديد للصراع، لا يبدو أنه يفزع السيد أردوغان، المهتم خاصة باستخلاص مكاسب انتخابية من سياسة الأسوأ هاته.

لقد كشفت هجومات باريس الإرهابية عن تحول في إستراتيجية “داعش”. تعتبر هذه الأحداث العنيفة تكملة لما وقع في بيروت ضد حزب الله المساند لنظام الأسد، وكذا إسقاط الطائرة الروسية في سيناء المصرية، بحيث برهنت على نوع من الكفاءة أبان عنها التنظيم خارج سوريا والعراق، لضرب المتحالفين ضده بكيفية جلية، كما تثبت تأثره بالضربات القوية التي تلقاها داخل معاقله: قيامه بهذه الهجومات المضادة في الخارج يترجم تراجع اندفاعه الهجومي على مستوى الجبهة الداخلية. إن مخاطر الإرهاب في خط متصاعد. باختصار هذا العنف اللاعقلاني ظاهريا هو مُبين، وضمن السياق نفسه المنطق الكارثي لـتنظيم” القاعدة”.

بوسع الغرب أن يعزز حملته العسكرية الجوية، لكنه لن ينجح في استئصال “داعش”. لقد بينت التجربة نجاعة الفاعلين غير المرتبطين بتنظيمات رسمية للقيام بعمليات اقتحام ميدانية، مثال على هذا الهجوم القوي للأكراد على سنجار، تماما كتدخل القبائل البدوية لعشيرة شمر في النزاع ضد “داعش”. بالتالي فالمبادرة إلى مهاجمة التنظيم الإرهابي، على نحو فعال، تقتضي حقيقة إستراتيجية توحد كل القوى الحاضرة على الميدان، مع تخفيض مستوى الحسابات المتضاربة والتجاذبات الجيوسياسية.

هل هو مآل لعبة الدومينو المناهض للثورات كما راهنت عليه الدول السلطوية، ثم إمكانية بروز ثاني الربيع العربي”، وتشابك المصالح حول الوحش الجهادي: إن التمزق بين هذه المنظورات الثلاث يجعل مستقبل العالم العربي غامضا جدا.



(1) Jean-Pierre Filiu, « Mamelouks modernes, mafias sécuritaires et djihadistes », Orient XXI, 9 septembre 2015, http://orientxxi.info

(2) Lire Peter Harling, « Ce qu’annonce l’éclatement irakien », Le Monde diplomatique, juillet 2014.

(3) Lire Julien Théron, « Funeste rivalité entre Al-Qaida et l’Organisation de l’État islamique », Le Monde diplomatique, février 2015.

(4) Lire Alexeï Malachenko, « Le pari syrien de Moscou », Le Monde diplomatique, novembre 2015.

المغرب الكبير بين الاستبداد والأمل الديمقراطي

بعيدا عن الصراعات الكبرى في العالم العربي

نوفمبر 2016

مع اجتياح الاضطرابات السياسية والحرب في الشرق الأوسط، قد تبدو الجزائر والمغرب وتونس واحات استقرار في العالم العربي. حالة تنبع من الطبيعة المتجانسة لأنظمة الحكم وللشعوب. ولكن باستثناء تونس، لم يدم الانفتاح الديمقراطي: فالأنظمة الحاكمة لا تزال متعلقة بالحفاظ على امتيازاتها

في شهر يناير 2011، فتح سقوط الديكتاتورية التونسية دائرة الانتفاضات الشعبية التي تجتاح العالم العربي. لكن المؤشر التاريخي لهذه الحركة تحرك ويتحرك أيضا في المغرب العربي: الجزائر، حيث أثارت أعمال الشغب الضخمة في أكتوبر 1988 الأمل في الانفتاح الديمقراطي قبل أن تؤدي إلى حرب أهلية دامية.

 بالنسبة للمراقبين الأجانب، يبدو المغرب والجزائر وتونس مختلفين جدا من حيث النظام والاقتصاد والسياسة الخارجية وما يقرب بين البلدان الثلاثة هو أن المغرب الكبير يمثل كيانا متميزا جدا داخل العالم العربي الإسلامي، ثقافيا واجتماعيا وجيوسياسيا. ومفهوم الثقافة هنا لا يشمل ة مجموعة جامدة من القيم والسلوكيات.

 توجد أوجه تشابه سطحية، سواء من خلال المتغيرات المحلية للغة العربية أو فن الطهي - غالبا ما يقال إن المغرب الكبير ينتهي ويبدأ الشرق الأدنى حيث يفضل الناس الأرز على السّميد، ولكن الثقافة تشير إلى رصيد مشترك من الذكريات والممارسات التي تولد عقلية من نفس الطبيعة تجاه المؤسسات. على سبيل المثال، بنت جميع البلدان المغاربية استقلالها على جهاز دولة مركزي للغاية، ورشته من الاستعمار الفرنسي ومن الجغرافيا. ومن أصولهم، يشترك المغاربيون في التعلق بالحكم الوطني والفكرة القائلة إن البيروقراطية المدنية ستنظم الحياة الاجتماعية والاقتصادية. 

 إن المغرب الكبير لا يتميز فقط بتماسك دوله، بل أيضا بتماسك شعوبه، التي تعرف انقسامات عرقية وعقائدية أقل وضوحا من البلدان العربية الأخرى. لا يوجد انقسام بين السنة والشيعة، مثل الانقسام الصريح العراق أو البحرين ولا يوجد نظام طائفي مصدر للتصدعات السياسية والعقبات المؤسساتية، على عكس ما يحدث في لبنان من المؤكد أن وضع الهوية البربرية في المغرب والجزائر لا يزال موضوع مفاوضات عنيدة، وقد أظهرت الحرب الأهلية في الجزائر (1992-1999) أن العنف يمكن أن يندلع في أي مكان وفي أي وقت. وتبقى الحقيقة أن هذه البلدان بمنأى إلى حد كبير عن القتال بين الأشقاء بشأن قضايا الوحدة الوطنية أو الهوية الإثنية أو الانتماء الديني.

أوجه التشابه بين الجزائر والمغرب

 تشكل الدول المغاربية فضاء جيوسياسي فريدا في العالم. وعندما تتطلع دول عربية أخرى إلى واشنطن ولندن، فبلدان المغرب الكبير لا تزال متأثرة إلى حد كبير بباريس وتعيش فئة كبيرة من سكانها في أوروبا الغربية، مما يغذي تدفقا مكثفا من الأفكار والناس والسلع التي تعبر البحر الأبيض المتوسط في كلا الاتجاهين. كما أنها تبقي على مسافة نسبية من الصراعات الكبرى في العالم العربي بينما يظل التضامن مع الفلسطينيين موضوع إجماع لدى شعوبها ولكن الأزمة الإسرائيلية الفلسطينية لا تؤثر عليهم كثيرا. كما أن هذه البلدان لم تنغمس في دوامة أيديولوجية وطائفية تزداد بسببها حدة المواجهة بين دول الخليج وإيران، وحيث يتم خوض الحروب بالوكالة التي تغرق سوريا واليمن في الدماء.

ومن المؤكد أنها ليست بمنأى عن المناورات الاستراتيجية للقوتين الإقليميتين، إيران والمملكة العربية السعودية. انضم المغرب إلى التحالف العربي الغربي ضد المتمردين الحوثيين – القريبين من إيران- في اليمن، في حين وقفت الجزائر إلى جانب روسيا والصين في انتقادهما للتدخل الأمريكي والأوروبي في ليبيا. لكن مثل هذه الالتزامات لا تتطلب من الجزائر أو الرباط تسخير موارد اقتصادية أو عسكرية كبيرة ولا يقوضان استقلالهما السياسي.

 ولدى البلدان المغاربية شيء آخر مشترك. وهنا، كما هو الحال في أي مكان آخر في العالم العربي، توجد السلطة السياسية بين يدي أنظمة استبدادية حصنت مواقعها على مر العقود ولكنها تحتفظ بقدرة معينة على التكيف الاستراتيجي فالحكام أكثر اهتماما ببقائهم في السلطة من حرصهم على توفير الرخاء الجماعي ويستعملون التعسف والإكراه لاحتواء أي مطالب بالتعددية. ومع ذلك، وعلى عكس جيرانها في الشرق الأوسط، فإن هذه البلدان يسكنها منذ فترة طويلة مواطنون مصممون على إسماع صوتهم، من خلال نسيج الجمعيات ولكن أيضا على الساحة السياسية. وليس من قبيل المصادفة أن "الربيع العربي" نشأ هنا مرتين - ليس فقط لأن الحكومات فشلت في تلبية المطالب الشعبية، ولكن أيضا لأن المجتمعات كانت لديها الإرادة والطاقة لتحدي الوضع الراهن. 

وتواجه كل دولة من الدول الثلاث عقبات خاصة. من خلال محاولة مقارنة المغرب والجزائر وتونس، ندرك بشكل أفضل لماذا يملك المغرب الكبير مثل هذه الإمكانات الواعدة للتحول الديمقراطي، ولكن أيضا لماذا أصبح تنفيذ الإصلاحات السياسية والاقتصادية الحيوية لهذه البلدان أكثر تكلفة كل يوم.

إن المشكلة الرئيسية للمغرب الكبير، وكذلك أمله الرئيسي، تكمن في الدور الذي يلعبه الرأي العام في الحياة السياسية. ومن وجهة النظر هذه، هناك تفاوت كبير بين الانفتاح الديمقراطي الذي كسبته تونس والنظم الأكثر انغلاقا في المغرب والجزائر.

بعد مرور ست سنوات تقريبا على "الربيع العربي"، تميل الأنظمة الاستبدادية السائدة في هذين البلدين إلى التشابه أكثر فأكثر. وبطبيعة الحال، بدأ كل منها تاريخ استقلاله بطريقة خاصة جدا.

إن الـمغرب له نظام ملكي تحكمه أسرة علوية تمسك بالسلطة العليا منذ أربعة قرون. أما الجزائر فنشأتها كدولة أمر حديث العهد نسبيا والنظام الحاكم فيها نظام استبدادي عسكري يجسده رئيس مدني. وهذان الشكلان من أشكال الحكم يستمدان شرعيتهما من أسس مختلفة. في المغرب، تستند السلطة المطلقة للملك إلى موقفه الديني بوصفه "أمير المؤمنين" و"ظل الله على الأرض" في حين يستمد الجيش في الجزائر ريادته من تاريخ النضال من أجل الاستقلال. 

والنخبة العسكرية الحاكمة في الجزائر تقدم نفسها على أنها الوريث المباشر للمجاهدين الذين حرروا الوطن من الاستعمار الفرنسي، ومن ثم فهي تعتبر نفسها الحامية الوحيدة للدولة، كما أظهرت ذلك بقسوة شديدة في التسعينيات، عندما تعاملت مع الحركة الإسلامية التي اعتبرتها خطرا يجب القضاء عليه بكل الوسائل. 

غير أن هذين النظامين يتلاقيان اليوم حول نقاط عديدة. وفي الجزائر، ترى الدائرة الصغيرة من القادة العسكريين والمدنيين، المشهورة بتعتيمها ومحسوبيتها، أن هيمنتها مهددة من طبقة الفاعلين الاقتصاديين الجدد في المجال السياسي. ويجري استنساخ نموذج للسلطة الجزائرية على نمط جهاز المخزن المغربي، وهي الشبكة النخبوية المعقدة التي تحيط بالقصر الملكي. 

لقد حدث تطور مرتبط باستراتيجية الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في السماح لقاعدة النظام بالانفتاح أكثر بمناسبة كل أزمة ودمج أعضاء جدد لإسنادها. وقد أزال حل جهاز الاستخبارات والأمن في عام 2015، (جهاز الاستخبارات العسكرية سابقا)، عقبة رئيسية في هذا الاتجاه. 

وفي الوقت نفسه، أدى نمو اقتصاد السوق إلى خلق طبقة جديدة من الأطر الحضرية الموالية للسلطة العسكرية. وعلى عكس الجَيْل السابق، لا يتم تقييم هؤلاء الموالين من خلال تمسكهم بذكرى المبادئ الثورية، بل من خلال منفعتهم المادية المباشرة. إن حكم الأقلية آخذ في التوسع، مما يجعل رئيس الدولة هو رئيس من بين أقرانه من الزعماء ومن وظائفه، مثل القصر الملكي المغربي، توزيع المكافآت والتحكيم بين المصالح المتنافسة. 

وعلى العكس من ذلك، يقترب المغرب من جارته الجزائرية من حيث التعتيم على صنع القرار. كانت السياسة الوطنية تنبع تقليديا من نواة مركزة ولكن يمكن توقع قراراتها، وهي تتألف من الملك ووزير داخليته، اللذين لم يبذلا أي جهد لإخفاء هذا الواقع. وبفضل التحرير المستمر للاقتصاد، امتدت حاشية السلطة لتشمل فئات جديدة من دوائر الأعمال - مثلما حدث في الجزائر. وظهرت جماعات ضغط، مانحة للملك قاعدة أوسع من الموالين المخلصين. لذلك يجد الملك نفسه بدوره "الأول بين عدد من المتساوين"، أي مجبرا على مبادلة سلطته الفردية بوظيفة وسيط بين مختلف المجموعات التي تتنافس في فلكه. 

ويصاحب هذا التنويع في السلطة زيادة في التعتيم على عملية صنع القرار، بحيث لا يملك المغاربة سوى فكرة تقريبية عن كيفية تطوير السياسة على رأس الدولة والأطراف الفاعلة الـمسؤولة عنها.

إن ترابط النخب هو المحرك الرئيسي لهذا التحول. وقد سمح تراجع الاستبداد الملكي في المغرب وتفكيك مديرية الاستخبارات والأمن الجزائرية للطبقات المهيمنة الجديدة بتعزيز نفوذها المالي والسياسي. في الأوقات العادية، يتنافس أفراد هذه النخب بضراوة فيما بينهم وكلما اندلعت بوادر أزمة ما فإنهم يرصون صفوفهم مثل مجموعة من الذئاب من أجل الحفاظ على النظام. في المغرب، فعلوا ذلك بعد وفاة الملك الحسن الثاني في عام 1999، وخلال الهجمات الإرهابية في عام 2003، ومرة أخرى في عام 2011، عندما نزلت حركة 20 فبراير إلى الشارع للاحتجاج. لا شك أن النخب الجزائرية سوف تظهر نفس روح المبادرة عندما يستسلم السيد بوتفليقة لأمراضه ويختار الجيش رئيسا جديدا، على الرغم من أن مخاطر عدم الاستقرار أكبر في الجزائر بسبب غياب قواعد واضحة فيما يتعلق بعملية خلافة الحاكم عندما يرحل عن الدنيا أو يغادر السلطة. 

وهذا المنطق يعني أن النخب المغربية والجزائرية ليس لديها رؤية طويلة الأمد. فهي لا تستطيع تصور نظام سياسي آخر، إذا ركزت على استمرارية النظام وعلى مصالحها بدلا من التصدي للمشاكل الهيكلية. وهذا يعني ضمنا أنه إذا حدث مثل هذا الأمر، في نهاية انتفاضة على سبيل المثال، فإنهم سيكونون فاقدين الاستعداد للتكيف مع نظام جديد. وفي مثل هذه الحالة، سيكون للمغرب بلا شك ميزة نسبية على الجزائر، بسبب غياب ريع النفط وقدرة النظام الملكي على خلق الإجماع حوله. 

أما تونس فهي تمثل سيناريو مختلفا تماما. وهنا، تخلصت انتفاضة 2010-2011 على الفور من رأس الاستبداد الحاكم القديم. فالنخب التي تورطت مع نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي، بما في ذلك المسؤولون السابقون في الجهاز الديكتاتوري، لم تستحوذ سوى على مناصب ثانوية في أول حكومة ما بعد الثورة. 

وفي بداية هذا العهد الديمقراطي الجديد، لم يكن صوت الشارع يلقي بثقله على صياغة السياسة الوطنية فحسب، بل أيضا على إعادة بناء الدولة نفسها - وهو مثال نادر على المشاركة الجماعية في الشؤون العامة.

الحالة التونسية

  على سبيل المثال، حافظت منظمات المجتمع المدني الرئيسية، مثل نقابة الصحفيين والاتحاد العام التونسي للشغل، على الضغط المستمر على الأحزاب السياسية - بما في ذلك حزب النهضة الإسلامي - لدفعها نحو الشفافية. وعلى عكس المغرب والجزائر، يوجد في تونس برلمان ليس مجرد غرفة تسجيل، بل هو هيئة تشريعية ورقابة حقيقية تكون السلطة التنفيذية مسؤولة أمامها. وتشغل النساء ما يقرب من ثلث مقاعد البرلمان (31 في المائة) - وهي واحدة من أعلى النسب في العالم العربي والقارة الأفريقية، وهو ما يتجاوز أيضا ما هو سائد في العديد من البلدان الغربية. وتتألف لجنة الحقيقة والكرامة، التي أنشئت في عام 2014 للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها النظام السابق، إلى حد كبير من شخصيات مستقلة. 

ولا تزال الديمقراطية التونسية بعيدة عن التوطيد، ويمكن أن تنهار الترتيبات التي يتم التفاوض عليها بين الإسلاميين والقوميين ورثة حزب الدستور الجديد في أي وقت. ومع ذلك، تظل تونس مثالا حيا لما يمكن لبلد مغاربي أن يحققه من حيث السيادة الشعبية في حدود المؤسسات المنتخبة. إن الشفافية والمساءلة أمام الناخبين مضمونة بشكل أفضل ليس فقط من جيرانها المغاربيين، ولكن أيضا من معظم الدول العربية.

كما تضمن البلدان المغاربية الثلاث مجموعة واسعة من أشكال التعبير السياسي للقوى الإسلامية. فهي تبرهن بطريقتها الخاصة، أن مكانة الدين في الحياة السياسية العربية أبعد ما تكون عن التناقص وأن استقرار الدول في المستقبل سيتوقف على قدرتها على التوصل إلى الحلول الوسطى والانفتاح. 

أما المغرب فهو حالة مضللة. فقد قاد حزب العدالة والتنمية، وهو الحزب الإسلامي الرئيسي، الحكومة منذ فوزه في الانتخابات البرلمانية عام 2011 - وفاز مرة أخرى في أوائل أكتوبر ب 125 مقعدا من أصل 395 مقعدا (107 مقاعد في عام 2011). لكنه رضخ لرغبات النظام عبر تحييده لحركة 20 فبراير الاحتجاجية. من الناحية الأيديولوجية، حزب العدالة والتنمية هو حزب نظام وليس حزب تغيير. وقد استوعب بنفسه رغبات السلطة الملكية، ولم يدخر جهدا للاستحواذ على موطئ قدم له في مؤسسات الدولة ولكن دون أن ينجح في ترسيخ ممارسات جديدة. وعلى عكس الفكرة الواسعة الانتشار، لم تقلل مشاركة حزب العدالة والتنمية في الحكومة من جاذبية الإسلام السياسي، لسبب بسيط هو أن الحزب لم يكن مصمما أبدا على تحدي السلطة الحاكمة بل يكتفي بالسير وراءها.

تعكس هذه الحالة الدور الخاص للخطاب الديني في المغرب. لا يكلف حزب العدالة والتنمية نفسه عناء تحدي السلطة الملكية في المسائل الدينية، لأن الهالة التاريخية للأسرة العلوية لا تسمح بالتنافس معه في هذا المجال. ويمارس النظام رقابة صارمة على المدارس القرآنية والأئمة والمساجد وقد وجدت الجماعات الإسلامية التي تجرأت على تحدي هذه القاعدة نفسها مستبعدة من المشهد السياسي، مثل حركة العدل والإحسان وكذلك مختلف المنظمات السلفية. وفي النهاية، لم تطرح مسألة الدين في السياسة على محمل الجد. وسوف تطرح بشكل حاد في حالة حدوث انفراج ديمقراطي.

لكن في نظر العالم الخارجي، يتميز الإسلام المغربي بمزجه ثلاثة عناصر غالبا ما ينظر إليها على أنها الترياق ضد التطرف: الفقه المالكي والعقيدة الأشعرية والنزعة الصوفية. صحيح أن هذه المدارس الثلاثة تستند على إنتاج فكري غزير وغني يمنح مكانة واسعة للاجتهاد البشري ويعزز الاعتدال. لم يتردد المغرب في إبراز هذه الصورة تجاه أوروبا، بحجة توافق هذه النسخة من الإسلام مع المبادئ العلمانية العزيزة على فرنسا والجمهوريات الغربية الأخرى.

 

الهشاشة في حالة حدوث أزمة اقتصادية

 والحالة مختلفة في الجزائر، حيث يبدو أن شبح الحرب الأهلية في التسعينيات ومقتل أكثر من مائة ألف شخص قد حصّن المجتمع ضد شعارات الإسلام السياسي، حتى لو كنا نشهد من حين لآخر انبعاث الممارسات الأصولية والخطابات المتطرفة التي تذكرنا بممارسات مقاتلي جبهة الإنقاذ الإسلامية السابقة في ذلك الوقت. وعلى عكس النظام الملكي المغربي، لا يملك النظام الجزائري مؤسسات ولا سلطة في المجالات الدينية للرد على الخطاب الأصولي. إن الخوف من العنف هو مصدر قوته الرئيسية في مواجهة المنظمات الكبيرة المتشددة والجماعات المتطرفة مثل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. وهذا هو السبب في فشل الإسلام السياسي على مدى عشرين عاما في العثور على مساحة على رقعة الشطرنج السياسية الجزائرية، بينما في المغرب انصهر هذا الحزب الذي يجسد التيار في المنظومة الهرمية الرسمية. 

وبسبب الارتباط بين الإسلام السياسي والعنف، فإن الجماعات الدينية في الجزائر أقل اهتماما بالقيم المجتمعية من اهتمامها بإعادة إدماجها في اللعبة السياسية؛ ومن هنا جاء التزامها بالإصلاحات النظامية مثل عودة الجيش إلى ثكناته أو إعادة الاعتبار إلى البرلمان، مع فرصة ضئيلة لتحقيق هذه الغايات.

خاصة وأنه هذه الجماعات لا تعبر سوى عن القليل من أطروحتها فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، تاركة قضايا أمن الحدود في أيدي النظام - سواء في مواجهة مالي الهشة أو ليبيا التي تنهار.

وتونس تجسد هنا مرة أخرى مجالا مختلفا تماما من الاحتمالات. ويشير تاريخها الحديث إلى أن حركة إسلامية قوية لا يكتفي النظام الديمقراطي بقبولها فحسب، بل يمكن أيضا، وقبل كل شيء، أن يدمجها في دواليبه. 

تشكل التحالفات والمواثيق المبرمة بين حزب النهضة ومعارضيه "العلمانيين"، ولا سيما حزب نداء تونس، الحزب الذي أنشأه رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، حجر الزاوية في السياسة التونسية اليوم. ومع ذلك، لم يكن أي من الطرفين في البداية على استعداد لتقديم تنازلات بشأن الدستور، ناهيك عن تطبيق الشريعة الإسلامية.

ومع ذلك، فإن الخوف المشترك من التدمير المتبادل في أعقاب الحقبة الثورية أقنع الجميع في نهاية المطاف بالتراجع عن مطالبهم السياسية، حتى يمكن العثور على قاسم مشترك حول قضايا أساسية مثل حماية الحريات المدنية وحقوق المرأة والطابع غير الديني للدولة. 

وقد مكن هذا الحوار، بعد عدة عقود من المنفى والقمع، من ترسيم مشاركة الإسلاميين في الحياة الاجتماعية والسياسية للبلاد. كما يشير إلى أن الإسلام السياسي في تونس قد يكون علمانيا من جوانب كثيرة. ومن خلال النأي بنفسه عن الجماعات الأكثر تطرفا - السلفيين على وجه الخصوص - ومن خلال تفضيل العمل السياسي والاقتصادي الملموس على حساب التجريدات الدينية، بدأ حزب النهضة في اكتساب هوية جديدة قادرة على استيعاب أفكار بعيدة عن مرجعيته. وهو يقارن الآن بالاتحاد الديمقراطي المسيحي في ألمانيا أكثر منه بحزب العدالة والتنمية التركي، الذي كان يرتدي زي الإسلام السياسي البراغماتي، القادر على دمج المبادئ الدينية والأهداف السياسية في الإطار البرلماني.

وإلى جانب كل هذه الاختلافات، فإن البلدان المغاربية تشترك في نفس الضعف: ضعفها الشديد في حالة حدوث أزمة اقتصادية أو سياسية مفاجئة. وحتى في حالة خفوت التعبئة والتجنيد الذي يجثم على المشهد الحزبي منذ “الربيع العربي"، فإن الشرارات تظل موجودة. ويمكنها في أي وقت أن تحدث انفجارات متسلسلة يمكن أن تتحدى قدرة الأنظمة على الإمساك بسيطرتها على السكان. إن المجتمعات المغاربية، بل خصوصا عنصرها الأساسي، فئة الشباب، ترغب في ثلاثة أشياء: الخبز والحرية والكرامة: إن الخبز مرغوب فيه في البلدان الثلاثة في المنطقة، التي تتسم بتنامي الفوارق الاجتماعية والفقر والبطالة وهذا هو الحال بشكل خاص بالنسبة للجزائر، التي تحول اعتمادها على النفط والغاز إلى كارثة منذ انخفاض أسعار الوقود الأحفوري. ولكن البطالة بين الشباب آفة أيضا عند جارتيها. 

في تونس، وفي سياق تضرر فيه قطاع السياحة الحيوي من هجمات عام 2015، تذكّر الاحتجاجات في الشوارع ضد غياب الفرص أن الاتفاقات التي توصلت إليها حكومة ملتزمة بالليبرالية تتجلى في اللامبالاة بمصير أفقر الفقراء. إن الفصائل المختلفة في السلطة، التي استوعبها إنشاء نظام ديمقراطي قابل للحياة، تهمل الحاجة الملحة إلى إعادة هيكلة اقتصاد الاستيراد والتصدير الذي بدأ ينهار وهذا مأزق سبق أن واجهته دول عديدة تعيش تحولا ديمقراطيا. ويبدو المغرب، بسبب الخيارات الحكيمة التي اتخذها بعد الاستقلال والإطار القانوني الجيد نسبيا، أفضل استعدادا لتنمية اقتصاده. ولكن آفاقه على المدى الطويل يعرقلها بشدة ضعف مؤشرات التنمية البشرية وقطاع التعليم المنكوب. 

ومن المؤكد أن التنمية تستغرق وقتا. وحتى لو أجريت الإصلاحات اللازمة دون تأخير، فإن الأمر سيستغرق سنوات قبل أن يتمكن القطاع الخاص من توفير فرص العمل لفئات الشباب العاطلين عن العمل. وفي غضون ذلك، فإن احترام مبادئ الحرية والكرامة يمكن أن يخفف من حدة الأزمة من خلال توفير المعنى والأفق لكل ما هو ليس اقتصاديا بحتا.

وفي هذا الصدد، فإن المغرب والجزائر، للأسف، متخلفان بشكل خطير. وفي حين أصبحت عملية صنع القرار السياسي أكثر غموضا وأكثر تجزئة فإن السلطة التنفيذية نفسها لا تزال غير قابلة للتغيير في طبيعتها: فهي تقع أكثر من أي وقت مضى في أيدي مجموعة صغيرة ترفض أن ترى احتكارها للسلطة موضع تساؤل. وليس البرلمانات هي التي من المرجح أن تتحدى ذلك الاحتكار. قد تجرى الانتخابات في ظل ظروف مناسبة، ولكنها تصب في مؤسسات غير ناضجة سياسيا، تفتقر إلى سلطة حقيقية للتقصي في عمل الأجهزة التنفيذية والأمنية. ويصدق هذا بشكل خاص في الجزائر، حيث تفرغ الصراعات الداخلية الأبدية في قمة الدولة التمثيل المنتخب من كل مضمونه. في المغرب، على الأقل، هناك تنوع معين في التشكيلات والأيديولوجيات الممثلة في البرلمان، فضلا عن حياة تشريعية لا تتجاهل تماما المناقشات والتحقيقات. لقد أعطى النضال من أجل تقليص ونقل سلطات الملكية بعض المعنى للحياة السياسية. وفيما يتعلق بحرية الصحافة، يشهد البلدان تطورات معاكسة. وفي الجزائر، تمكنت وسائل الإعلام الحرة التي أنشئت بعد "الانفجار الكبير" في عام 1988 من النجاة تقريبا، في حين  أجهز  النظام في المغرب على الصحافة باستراتيجية الخنق التدريجي التي بدأت قبل أكثر من عقد من الزمان.

في البداية، أصدر القصر القواعد التي تفرض عقوبات على الصحف  التي لديها الجرأة لإثارة الاختلالات الاقتصادية أو السياسية. ثم هاجم جميع الصحف والمواقع الإخبارية الناقدة، وأدخل غرامات باهظة، مرادفة للإفلاس، على المخالفات  البسيطة. وأخيرا ضرب الضربة القاضية، مع إطلاق صحافة زائفة في السوق مصممة كسلاح حرب ضد المساحات الأخيرة من حرية التعبير التي لا تزال تقاوم من أجل البقاء. وهكذا أصبح لكل جهاز أمني، بما في ذلك القصر، وسائل إعلام خاصة به، تقدم نفسها كمنصة مستقلة، ولكنها تهدف في الواقع إلى إسكات أي صوت معارض من خلال نشر هجمات قذرة وتشهيرية وتجري هذه العمليات التي تديرها أعلى مستويات الدولة بكل سلاسة. إن التجسس على الهواتف والملاحقة من طرف أجهزة الأمن يسيران جنبا إلى جنب مع التعليمات التي تعطى للمحررين و"الصحفيين". ولكن مثل هذه الاستراتيجية تنتج أيضا آثارا جانبية: فمن خلال حرمان المجتمع من القنوات التي يمكن من خلالها التعبير عن استيائه، تخاطر الحكومة برؤية الضغوط الاجتماعية تتحرر بأشكال يصعب التحكم فيه.

هذه لعبة أكثر خطورة حيث يواجه المغرب والجزائر طلبا متزايدا على كرامة سكانهما. بين الفضائح السياسية، وقضايا الفساد، وإساءة استخدام السلطة، وانتهاكات الالتزامات الدولية، تواصل الحكومات المعمول بها الدوس على حقوق المواطنين تحت وطأة استبدادها. وينتج عن ذلك تشويه متزايد للحكم غير الديمقراطي الذي لا توفر له الدعوات إلى الوحدة الوطنية أي علاج.

الاستياء في الصحراء الغربية

 وبالإضافة إلى ذلك، لا يزال المغرب عاجزا عن إغلاق ملف الصحراء الغربية الشائك. ولا تزال الرباط تعتبر هذه المنطقة، التي تطالب جبهة البوليساريو باستقلالها، جزءا لا يتجزأ من أراضي المملكة. وقد طمأن مجلس الأمن الدولي المغرب حتى الآن، ولا شك أنه يعتزم الاستمرار في ذلك لأطول فترة ممكنة. ومع ذلك، فإن الاستياء الذي يتصاعد في الصحراء الغربية قد يؤدي في نهاية المطاف إلى تقويض هذا الوضع الراهن لأن كل أزمة تهز هذا الإقليم تجبر النظام الملكي على البحث عن حلول وسط جديدة. 

لقد جعل النظام هذه القضية دائما موضوعا للإجماع الوطني المقدس، فهو يحاصر نفسه بهذه الاستراتيجية ويستغل الخطاب الوطني لحماية نفسه داخليا من أخطائه، لكنه يخاطر بالعثور على نفسه سجينا في وقت لاحق، عندما تنشأ احتجاجات جديدة في منطقة الصحراء. إن الإحساس الوطني الذي تحرك في الماضي يتعرض الآن للإساءة، مما يزيد من تأجيج التوترات داخل المجتمع المغربي.

 وينطبق الشيء نفسه على موضوع المطالبة بالكرامة: إن المشكلة لا تكمن في الحجج التي ساقها المغرب - في هذه الحالة، الدفاع عن الحقوق التاريخية والسيادة الوطنية - بل في استحالة كسر الجمود دون القبول أن يصبح النظام ذا طبيعة ديمقراطية حقيقية. 

وهنا أيضا، فإن الاستبداد، الذي لم تفلت منه سوى تونس، يصطدم بالحدود التي وضعها لنقسه. إن المشاكل الأساسية التي تغذي الإحباط الاجتماعي لا يمكن حلها إلا من خلال الحوار والحلول الوسط، وهو ما ترفضه الأنظمة الاستبدادية، ومن هنا يأتي خوفها الكبير من أن يحل محلها منافس في حالة ما قبلت ولو قليلا من الانفتاح، وعلاوة على ذلك، وبقدر ما ترفض الحكومات اعتماد الأدوات المؤسساتية التي تسمح بإشراك المجتمعات في حل الأزمات، يميل السكان إلى إلقاء اللوم على حكامهم. 

 في الأخير، ونظرا لجذوره الثقافية والاجتماعية والجيوسياسية، يبدو مستقبل المغرب العربي أقل كآبة بكثير من مستقبل الشرق الأوسط. ولكنه مستقبل غير مضمون. ومن المؤكد أن النظام الديمقراطي الجديد في تونس سوف يسمح لقادتها بالاستجابة بشكل أفضل للتحديات التي تأتي من نظرائهم الجزائريين والمغاربة؛ وعلى الرغم من أوجه عدم المساواة العميقة التي يشكو منها، فإن البلد لديه فرصة حقيقية للحصول على السلم والاستقرار. 

وعلى النقيض من ذلك، يستحضر قادة المغرب والجزائر مثال رجل الإطفاء الذي يشعل الحرائق. إنهم يسارعون إلى احتواء الأزمات والاضطرابات الاجتماعية، لدرجة أنهم لا يمكن أبدا أن يشعروا بالراحة في غياب الأزمات. إنهم يكتفون بالديمقراطية الصورية رسمية ويبحثون على الدوام عن كبش الفداء الذي سيتحمل وزر أخطائهم بدلا من المبادرة إلى إصلاح العيوب في سياستهم وقراراتهم، ولذلك فهم يديمون تلك العيوب بل قد يضخمونها، وعلى أية حال،

ستستفيد البلدان المغاربية الثلاثة من تجاوز تنافسها من خلال الاتفاق على التعاون إن هي اتفقت فعلا، حتى لو كان في الحد الأدنى. وينبغي ألا تحول قضية الصحراء دون وجود دينامية مشتركة حول قضايا مثل البيئة والتجارة والتكوين والطاقة والصحة. وإن كان ذلك يزيد من ثقلها عند التفاوض مع الاتحاد الأوروبي، من شأنه أن يخفف من حدة التوترات الثنائية ويعزز استقرار المنطقة.



(1) Cf. Charlotte Bozonnet et Youssef Ait Akdim, « Mohammed VI se voit en chantre de l’islam modéré », Le Monde, 23 août 2016.

(2) Expression utilisée par Dale F. Eickelman et James Piscatori dans leur ouvrage Muslim Politics, Princeton University Press, 2004, 2e édition.

الأمل في إحياء فكرة الوحدة العربية

حالة طوارئ اقتصادية ومأزق أيديولوجي

نوفمبر 2017

من دون السعي لإحياء المشروع العربي، يمكن لدول المشرق والمغرب أن تتغلب على انقساماتها السياسية من خلال المراهنة على المزيد من التعاون الاقتصادي والاجتماعي. ومن شأن هذا التقارب، الذي يعتمد على زيادة إضفاء الطابع الديمقراطي على الأنظمة القائمة، أن يساعد على تعزيز دينامية منطقة لا تزال تعاني من مشاكل إنمائية كبرى

هل لا تزال الوحدة العربية ممكنة في زمن وفي مساحة تتسم بالتشرذم والصراع غير المسبوقين؟ لقد برز هذا الحلم النبيل للأمة كلها شكله الحديث عند بداية القرن العشرين، وهو يبدو اليوم أكثر بعدا عن التحقيق من أي وقت مضى. ومع ذلك، فإنه لا يزال يحفز الكثير من الجهود لتعزيز التعاون بين دول المنطقة. وإذا كان الحلم العربي القديم قد تلاشى، فإن تحقيق تكامل اقتصادي وسياسي أفضل يظل هدفا حاسما لجميع شعوب المنطقة، عربية وغير عربية. ومعظم البلدان المعنية لن تتمكن من التغلب على ضعفها البنيوي إلا عبر تعزيز علاقات الجوار.، والاختلافات بينهما هائلة. من الناحية الديموغرافية، فلا مقارنة بين دولة مثل مصر، التي يقطنها ما يقرب من مائة مليون نسمة، ومملكة صغيرة مثل البحرين، التي يقطنها أقل من مليون نسمة. بعض الدول (السعودية والجزائر...) مليئة بالهيدروكربونات، في حين أن دولا أخرى (تونس والأردن...) لديها موارد طبيعية ضئيلة جدا. ويفتقر البعض إلى المدارس والإرادة السياسية ليصبح سكانها ملمين بالقراءة والكتابة؛ ويعاني آخرون من كتلة من المواطنين المتعلمين الذين لا يستطيعون العثور على وظائف. هنا يوجد نظام زراعي يسمح بتصدير الأغذية إلى جميع أنحاء العالم وهناك، ما زال البلد يعتمد على الواردات للتغذية.

ومع ذلك، فإن بلدان العالم العربي هي فضاءات متشابكة يمكنها أن تتبادل فيما بينها وتتفاعل. ومن ثم فإن تحسين التكامل الإقليمي من شأنه أن يولد فوائد لجميع هذه الشعوب. ومن شأن الاتحاد الاقتصادي أن يعيد التوازن إلى ميزان القوى مع بقية العالم من حيث التجارة والاستثمار. كما أنه سيكون عاملا من عوامل السلام، لأنه سيشجع الحكومات على الانخراط في مزيد من الدبلوماسية واستخدام أقل للعنف. وأخيرا، فإنه سيسهل التعاون لمواجهة التحديات مثل إمدادات المياه أو المشاكل البيئية أو استقبال اللاجئين. 

السلاطين والإسلاميون والجهاديون

 ومع ذلك، تظل العقبات كبيرة. وأكثرها وضوحا هو الصعوبة التي نجدها الدول في التنسيق اقتصاديا واجتماعيا. إن الشرق الأدنى وشمال أفريقيا شاحبان بالمقارنة مع فضاءات متماسكة مثل أمريكا اللاتينية أو شرق آسيا، ناهيك عن أمريكا الشمالية ومعظم أوروبا. وتعد الحواجز الجمركية من بين أعلى الحواجز في العالم، وهو ما يفسر كون التجارة الإقليمية تناسبيا من بين أدنى المعدلات. والحالة ليست أحسن عندما يتعلق الأمر بالبنيات الأساسية للطرق والشبكات العابرة للحدود. ولا يزال الاستثمار بين بلدان المنطقة منخفضا للغاية وتهيمن عليه، حيثما وجد، ممالك الخليج. أما بالنسبة لنظاميْ المدارس والجامعات، لم تُبذل الجهود الكافية لجعلها متلائمة مع بعضها. وفي غياب التنويع الاقتصادي، لا يزال التأثير المشوه لعائدات النفط يؤدي دوره المسموم إلى أقصى حد، حيث تُرصد مبالغ ضخمة لفائدة المصالح الخاصة والسياسات القمعية أو العدائية. وهذه الانقسامات تفاقم تجزئة لعالم العربي وتوسع الفجوة بين النخب الحاكمة والشعوب.

 والعقبات ذات طابع سياسي أيضا. ولا تزال معظم الدول تحت سيطرة الأنظمة الملكية أو الاستبدادية المهووسة ببقائها على قيد الحياة لدرجة أنها لا تهتم بتكاليف الاندماج، مهما كان مفيدا على المدى الطويل. ويضاف إلى ذلك الانقسامات الجيوسياسية العميقة الناجمة عن التدخلات الأجنبية، التي لا تزال المنطقة أكثر عرضة لها من أي وقت مضى. إن الحرب الأهلية الدائرة بين تحالف سني متنوع ومحور شيعي يعتبره التحالف تهديدا هي واحدة من أكثر المظاهر حدة للانقسامات. وينقسم التحالف السني بدوره إلى ثلاث معسكرات: "السلاطين"، مثل حالة مصر أو المملكة العربية السعودية، والحركات الإسلامية المهيمنة، وأخيرا التيار الجهادي السلفي، الذي يجسده بشكل خاص تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). ويجسد المحور الشيعي إيران وحزب الله اللبناني وسوريا والعراق (باستثناء كردستان) والحوثيين في اليمن. ولكن هذه الفئات تحجب الواقع في بعض الأحيان أكثر مما تلقي الضوء على مخاطر الصراع. على سبيل المثال، داخل المعسكر السني نفسه، يتشارك السلاطين والإخوان المسلمون نفس العداء تجاه الجهاديين، ولكن من منظوريْن متعارضين تماما. فالأول يعتمد على الدور التاريخي الذي يلعبه الجيش والملكية كحماة للمجتمع وحراس للدولة - وهو تقليد لا يكفي دائما لضمان التفاهم الجيد بين ورثتهم، كما يتضح من التوترات بين المملكة العربية السعودية وقطر.

 ويعتمد هؤلاء بدلا من ذلك إلى سيادة الجماهير، التي يعرّفونها بأنها التفاف مشترك حول عقيدة الإسلام. وفيما يتصل بالتكامل الاقتصادي، فإن محاولة تقليد النموذج الأوروبي لن يكون لها معنى يذكر لقد بنيت أوروبا على دول قوية، حريصة على تعزيز سلطتها من خلال توحيد الأقاليم والسكان المختلفين. وقد كانت هذه العملية، التي صاغتها النخب السياسية، متجذرة في المصالح المتقاطعة للبرجوازية الوطنية وهي المدركة أن لها كل مصلحة في تجاوز أفاق حدودها.

 إن توحيد بروسيا مثال جيد، وكذلك المشروع البيدمونتي في إيطاليا (ريسورجيمنتو أو "الانبعاث") وأدت إعادة التصنيع الأوروبي في أعقاب الحرب العالمية الثانية إلى تقدم مادي وديمقراطي على حد سواء. وكانت فوائدها الاقتصادية تصب في مصلحة الحياة السياسية، حيث شكل أرباب العمل والنقابات العمالية القطبيْن اللذيْن انتظمت حولهما التعددية.

 لا يوجد شيء مثل هذا في العالم العربي. هنا أيضا، ومع ذلك، فقد حان الوقت للشروع في عملية التكامل، لأسباب لا علاقة لها بالصورة الرومانسية لشعب يقف وقفة رجل واحد. بعد مرور ست سنوات على انطلاق "الربيع العربي"، تمزق المنطقةَ حرب أهلية لا تعد الأزمة بين القطريين والسعوديين سوى واحدة من تجلياتـها الأخيرة.

 وهناك عدة دول مهددة بالانهيار، مثل ليبيا واليمن وسوريا، في حين أشرف العراق مرارا وتكرارا على الانهيار. إن البروز المفاجئ لتنظيم داعش والجماعات الجهادية الأخرى يوضح الجاذبية التي يمارسها التطرف الأكثر دموية على الشباب المحبط في هذه البلدان. ولكن في الوقت نفسه، فإن العالم العربي غني بالخبرة والتجربة التي لا تعرفها سوى أجزاء قليلة أخرى من العالم.

وتشتمل فكرة العروبة على قوة غير عادية، تدفع إلى نشر الإنجازات الثقافية العابرة للأوطان، بما في ذلك لغة مشتركة، ومعايير سياسية دون علم الأنظمة المعنية. في منتصف القرن العشرين، أظهر التوسع السريع للأيديولوجية العربية قوة المعتقدات السياسية التي يمكن أن تقفز على الحدود في وقت كانت فيه تكنولوجيات الاتصالات في مهدها أو غير موجودة.

 وبعد عدة عقود، انتشرت فكرة الإسلام السياسي بنفس الطريقة، واستبدلت الحلم المحطم لأمة عظيمة بوعد مجتمع ديني. إن جماعة الإخوان المسلمين اليوم، وداعش نفسها، من نواح كثيرة، هي نتاج هذه العملية. ويمكن للتكامل العربي أن يعتمد على هذه التجارب لتجاوز الحدود الاقتصادية والسياسية التي تقسّم المنطقة.

 ويتمثل جوهر هذه الفكرة في فرضية ثابتة: التقارب الثقافي بين العرب، وتقاسم إرث لغوي وجغرافي وتاريخي يساعدهم على الشعور بالانتماء إلى نفس الحضارة. تعود فكرة الوحدة إلى انحسار الإمبراطورية العثمانية، عندما صاغ المفكرون الأصليون مفهوم أمة مشتركة مبنية على شعب يعتـزّ برفض كل أشكال الهيمنة الأجنبية. وقد شهدت عصرها الذهبي في نهاية الحرب العالمية الثانية، مع تأسيس جامعة الدول العربية والاستيلاء على السلطة في مصر من طرف جمال عبد الناصر. وكانت جامعة الدول العربية تمثل أول جهد تبذله الدول التي تخلصت من الاستعمار حديثا لإنشاء منتدى متعدد الأطراف وتيسير تعاونها. وإذا كان هذا الحلم العربي قد انهار تقريبا بعد حرب الأيام الستة في عام 1967، عندما ألحق الجيش الإسرائيلي هزيمة كارثية بتحالف القوات العربية، فإنها تركت أثرا في الأذهان وذكريات، لا يزال حاضرا ومشهودا حتى اليوم.

 وشهد العقدان التاليان لأوائل الخمسينات محاولات متتالية لتحويل هذا الحلم إلى حقيقة واقعة. وكان الاتحاد في عام 1958 بين مصر وسوريا في دولة جديدة تسمى الجمهورية العربية المتحدة هو الأكثر تجسيدا لبداية تحقيق الحلم. ولم تستغرق التجربة سوى عامين، ولكن تم إحياؤها في عام 1963 مع مشروع كونفدرالية تضم مصر وسوريا والعراق. وسنذكر أيضا الاتحاد الهاشمي الزائل للأردن والعراق في عام 1958، أو التقارب الذي حدث في عام 1972 بين مصر والسودان وليبيا داخل اتحاد الجمهوريات العربية الذي سيبقى قشرة فارغة. ومن جانبها، ستقترح ليبيا تحت قيادة العقيد معمر القذافي، عبثا، الاتحاد على العديد من جيرانها (تونس ومصر والجزائر والمغرب) قبل أن تحوّل أنظارها إلى أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.

 في السبعينيات من القرن العشرين، بدأ الحلم الوحدوي العظيم يلفظ أنفاسه الأخيرة عندما عاشت المنطقة على إيقاع الحرب الأهلية في "أيلول الأسود" في الأردن، والصراع بين المغرب والجزائر حول الصحراء الغربية، والثورة في إيران، والحرب العراقية الإيرانية، وتمزق الإجماع العربي بمناسبة توقيع اتفاق سلام بين مصر وإسرائيل: إنها جملة من الصدمات الجيوسياسية التي أطلقت رصاصة الرحمة على فكرة العروبة المحتضرة. على مدى العقد التالي، حاول العالم العربي إعادة بناء واجهته من خلال إنشاء سلسلة من المؤسسات المتعددة الأطراف أصغر من جامعة الدول العربية، مثل مجلس التعاون الخليجي أو اتحاد المغرب العربي أو مجلس التعاون العربي. ومن بين كل هذه "الأمور"، لا يزال مجلس التعاون الخليجي وحده هو الذي يواصل لعب دور حتى يومنا هذا.

 في عام 1990، وقّعت حرب الخليج إلى الأبد شهادة وفاة عموم العروبة كأيديولوجية سياسية. لم يكن غزو دولة عربية لدولة أخرى غير مسبوق فحسب، بل أعاد إحياء العداء القديم بين الدول الغنية والفقيرة، وهي الفجوة التي استمرت المعارضة بين الممالك النفطية والرأي العام في تعميقها حتى اليوم. كما منح الاحتلال العراقي الفاشل للكويت الفرصة لجولة جديدة من التدخلات الغربية في المنطقة.

انخفاض حجم عائدات النفط

 ومع ذلك، فإن المشكلة الأساسية للعروبة الشاملة تكمن في أماكن أخرى. منذ بداياته، عانى مشروع الوحدة العربية من التأثير الذي مارسه المذهب القومي والرومانسية الألمانية على أصحابه الأوائل، ويتألف من نظرية "نقاء" ثقافي لشعب واحد وتفوقه على الآخرين. كانت العروبة عاجزة خلقيا عن الدمج في نظامها الفكري الأقليات العرقية أو الدينية أو اللغوية، سواء الكردية أو اليهودية أو المسيحية أو البربرية. وعلاوة على ذلك، لم يكن يرغب في أن يتقبل التعبير عن الولاء الوطني لدولة قائمة. وأخيرا، فقد تأقلم الفكرة بسهولة مع التجاوزات الاستبدادية للحكام العرب، الذين ناضلوا بالتأكيد من أجل إلغاء الحدود بين العرب، ولكن لم يكادوا يناضلوا من أجل الفصل بين السلطات.

 ومع ذلك، فإن صعود وخفوت العروبة يمنح درسا مفيدا للعصر الحالي. إن القيم الأخلاقية أو المثل الرومانسية ليست كافية لإقامة تكامل إقليمي جديد. ولكي تنجح الدول والشعوب العربية حيث فشلت العروبة، من الضروري أن نأخذ في الاعتبار ديمومة الحدود القائمة وكذلك المطالب المادية والرمزية الخاصة بكل بلد. ويجب إيجاد طريقة لتشابك هذه المصالح المحلية المتباينة أحيانا داخل نفس المجال، بغض النظر عن التكاليف القصيرة الأجل لمثل هذه المغامرة. ويجب التشديد على أنه على الرغم من أن العروبة لم تعد موجودة كمشروع، فإن الجدوى من ضرورة التغلب على الانقسامات الوطنية أقوى من أي وقت مضى. وكان هذا أحد تحديات "الربيع العربي"، عندما تضخمت الاحتجاجات مثل حرائق الغابات وأحبطت جهود الأنظمة القائمة لخنقها. وبهذا المعنى، فإن العروبة هي العمود الفقري لما يمكن تسميته "المجال العام الإقليمي"، حيث تنتشر الأفكار والصور والمعلومات بحرّية في المجتمعات، من خلال استخدام وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية.

هل من المرجح أن تشجع المصالح المشتركة الدول العربية على أن تصبح أكثر تكاملا من الناحية الاقتصادية؟ حتى وقت قريب، كان هذا الاحتمال يبدو غير متصور بالنظر إلى الآثار السلبية لريع النفط والغاز.  ومن المعروف منذ فترة طويلة أن عائدات الذهب الأسود تسمح أيضا للأنظمة الاستبدادية بتمويل سياساتها القمعية وشراء السلام الاجتماعي من خلال توزيع المساعدات والهِبات.

 وقد انتشرت مداخيل الريع دائما في المنطقة، عن طريق المعونة الخارجية أو التحويلات المالية من العمال المهاجرين أو غيرها من التدفقات المالية. ولكن إيرادات النفط لها ميزة أخرى وهي أنها تفاقم الصراعات من خلال تزويد البلدان المصدرة بالوسائل للتدخل المستمر في شؤون جيرانها. وعندما تنهار أسعار برميل النفط، فإن هذا يحد من حماسهم التدخلي في حين يحرمهم من الموارد اللازمة للحفاظ على التحكم في المجتمع. وينعكس هذا التأثير المزعزع للاستقرار في البلدان الفقيرة، التي تشكل المعونة المقدمة من الأنظمة الملكية النفطية والتحويلات المالية من العمالة المهاجرة موردا حيويا لها.

على مدى السنوات العشرين الماضية، استثمرت الدول المصدرة للهيدروكربونات جزءا كبيرا من عائداتها في صناديق الثروة السيادية التي تبلغ قيمتها تريليونات الدولارات. ونتيجة لذلك، فإن الحكومات المعنية تهتم بإدارة هذه الأرصدة الضخمة، التي عادة ما توضع في الخارج، بقدر اهتمامها بالتنمية الاقتصادية لبلدانها. وهو ما يثير السؤال الحاسم حول من هو المالك الشرعي للثروة النفطية – الملك؟ عائلته؟ الشركات المملوكة للدولة؟ البنوك الأجنبية التي توضع فيها الأصول؟ أو البلد بأكمله؟

وعلى أية حال، يواجه العالم العربي الآن تراجع عائدات النفط، وهي ظاهرة جديدة قد تصبح لا رجعة فيها. ويتجاوز حجم الاحتياطي النفطي القابل للاستغلال بكثير أكثر التقديرات تفاؤلا للطلب العالمي في المستقبل. ومن المؤكد أن النمو السريع للطبقات المتوسطة في الهند والصين يدفع نحو ارتفاع الطلب على الطاقة. ولكن هذا الطلب نفسه يعوقه تطوير الموارد الطاقية المتجددة والتقدم التكنولوجي للصناعة، وخاصة السيارات، في سياق من الاحترار العالمي المتزايد الضغط. ويضاف إلى ذلك وصول الغاز الصخري إلى الأسواق العالمية، مما يسهم كذلك في تخفيض أسعار النفط.

 وعلاوة على ذلك، تغيرت آليات تسعير الذهب الأسود تغيرا كبيرا في السنوات الأخيرة. لم تعد القيمة النقدية للهيدروكربونات موضوع تقدير فقط بحجم الإنتاج، وهو مجال يتألق فيه المصدرون العرب، بل تتأثر بنوعية التكرير والمعالجة للحصول على منتوجات مشتقة، مثل البلاستيك أو البتروكيماويات. وقد عزز هذا التطور بقوة عولمة سوق الطاقة، حيث لم يعد مصدر النفط المعروض للبيع معيارا حاسما. ونتيجة لذلك، فإن الدول في العالم العربي، التي تحتكر استخراج النفط، تفقد باستمرار نفوذها لفائدة الأطراف الفاعلة في الأسواق. إن منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك)، التي كانت تتحكم بشكل كامل في أسعار النفط الخام، تكتفي الآن بتسجيل الأسعار بدلا من تحديدها. إن تراجع المكاسب النفطية ينذر باقتراب فترة طويلة من الصعوبات الاقتصادية. ومن خلال إضعاف المستفيدين من الإيرادات وفرض الحاجة إلى التنويع نحو موارد أكثر استدامة، يمكن أن يكون أيضا حافزا لتوثيق التعاون. ومن شأن الاستراتيجيات المتعددة الأطراف، على سبيل المثال، أن تحدد مجالات جديدة للنمو وأن تتحكم بشكل أفضل في الامتيازات النسبية للدول.

ومن بين البلدان غير المصدرة للنفط في شمال أفريقيا والشرق الأدنى، توجد من لديها بالفعل قطاعات واعدة من الأنشطة - السياحة والزراعة في تونس، والسياحة، والفوسفات، والتصنيع في المغرب، والمنسوجات والمستحضرات الصيدلانية في الأردن، إلخ. غير أن الإرادة السياسية لـمغادرة منطقة الراحة القديمة تجعل من الضروري مقاومة المنطق الغريزي المتمثل في التقليل إلى أدنى حد من المخاطر والاحتفاظ فقط بالاستثمارات التي تكسب الكثير وفي وقت قصير. فمصدرو النفط لا يكادون يميلون، على سبيل المثال، إلى الاستثمار في الطاقة الشمسية لأنه من الصعب تخزينها، على عكس الهيدروكربونات، وبالتالي لا يضمن مكاسب سريعة.

 كما أن تنويع الاقتصاد لا يكون منطقيا إلا إذا تزامن مع جعل الهجرة أكثر مرونة وفتح سوق العمل. وهذا يعني في دول الخليج، على وجه الخصوص، التخلي عن نظام الكفالة الذي يبقي العمال المهاجرين في حالة شبه عبودية، واعتماد قانون الشغل يحترم كرامة الجميع. وهذا لن يخلق فرص عمل فحسب، بل سيضخ أيضا في السوق الداخلية بعضا من الرأسمال الضخم الذي يغادر البلاد كل عام. ويعني ذلك أيضا منح الحق في الشغل في كل بلد لجميع مواطني المنطقة.

وبطبيعة الحال، يتطلب التنويع درجة غير مسبوقة من المساهمة الدبلوماسية والتعاون المفتوح، وهو أمر لا يخلو من التكلفة السياسية التي لا ترغب العديد من الحكومات العربية العنيدة في دفعها. وآخر مثال على ذلك هو مشروع الربط الكهربائي لممالك الخليج: فهو مصمم لخفض تكاليف إنتاج وتوزيع الكهرباء، ولا يزال هذا البرنامج غير مكتمل وغير مستغل بسبب الخلافات بين الدول الست الموقعة، ولا سيما قطر والمملكة العربية السعودية.

وفي الوقت الراهن، لا تزال معظم الدول العربية تجد صعوبة بالغة في التضحية بمصالحها القصيرة الأجل من أجل الفوائد الطويلة الأجل للتكامل الاقتصادي، مهما كانت مرغوبة. إن غياب قيادة عربية قادرة على بناء توافق في الآراء بين نظرائها لا يجعل الأمور أسهل، لا سيما في سياق التوتر الجيوسياسي المتفاقم. ولم تعد مصر، التي كان لها هذا الدور في الماضي، المركز السياسي والثقافي للمنطقة. وتحاول المملكة العربية السعودية ملء هذا الفراغ بفضل ثروتها، ناهيك عن قدرتها على فرض الإجماع على جيرانها.

 لكن العالم العربي لا يستطيع الاعتماد إلا على نفسه لإيجاد حل. وفي حين أن الاتحاد الأوروبي شريك اقتصادي وسياسي رئيسي، إلا أن الغرب يعرقل الوحدة العربية منذ نهاية الاستعمار أكثر مما يسهلها. واليوم، كما كان الحال في الماضي، تفضل الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة، وكذلك الاتحاد الأوروبي، أن ترضى عن هذا الطرف أو ذاك من أطراف المنطقة بدلا من النظر إليه كمجموعة. وإذا لم يكن لدى الدول العربية الكثير لتأمله من دول الغرب، فليس لديها الكثير لتتوقعه من الشرق. ليس لروسيا ولا للصين مصلحة استراتيجية في توحيد عالم عربي يرغبان في السيطرة عليه واستغلاله. إن "طرق الحرير" الجديدة، وهو هذا المشروع الفرعوني الذي أطلقته بكين بين الشرق والشرق الأدنى، لا يبشر إلا باستبدال هيمنة بأخرى. والحل لا يكمن العثور عليه في مكان آخر غير العالم العربي نفسه. وفي الوقت الراهن، لا يمكن لمعظم الأنظمة التي تشكله أن تبرم ميثاق سلام وتعاون إقليمي دون إعادة تعريف الميثاق الذي يربط كل منها بمواطنيه. ومن شأن إعادة التشكيل نحو وضع أقل سلطوية وأكثر ديمقراطية، والتخلي عن الامتيازات، وحماية العدالة، وقلة المحسوبية، والمزيد من الشفافية أن يهيئ الظروف المثالية لإعادة مشروع التكامل الإقليمي إلى جدول الأعمال.

 لماذا؟ أولا، لأن النظم التعددية حقا هي أكثر الأطراف موثوقية في مجال التعاون الاقتصادي، كما تبين دول الاتحاد الأوروبي. ثانيا، النظم الديمقراطية هي أيضا الأقدر على مراعاة المصلحة العامة وبالتالي التغلب على العقبات الاقتصادية والاجتماعية التي قد تقف في طريق التكامل - على سبيل المثال، بتقديم تعويض عادل للقطاعات التي من المرجح أن تعاني من اتفاقات فتح التجارة. وأخيرا، فإن الدولة التي تحكمها سيادة القانون أقل احتمالا لأن تحتكرها نخبة صغيرة متشبثة بمصالحها الخاصة، وهو شرط مهم لأن التكامل الإقليمي الناجح يتطلب من كل شريك أن يتخلى عن نصيب من صلاحياته وامتيازاته.

وبما أن هذه الشروط غير حاضرة في الدول العربية، فإن العامل الوحيد الذي يمكن أن يقنعها بفوائد الاندماج هو غريزة البقاء. إذا وصلت الاضطرابات في العالم العربي إلى درجة أن وحدته السياسية والاقتصادية أصبحت الحل الوحيد الذي يسمح لحكامها بالبقاء في السلطة، فإن معظمهم، بلا شك، سيوقعون بدون تردد. ولكن لحظات عدم الاستقرار الشديد هذه نادرة في عصرنا. لقد تطلب الأمر حربين عالميتين لإقناع الأوروبيين بالاتحاد.  وعلى النقيض من ذلك، فإن شبكة الاتفاقيات الأمنية المدعومة من القوى الغربية لها نتيجة وهي ضمان أن أية كارثة، من غزو الكويت في عام 1990 إلى الحرب الحالية في سوريا، ستفلت تماما من سيطرتها وتنتهي بإشعال المنطقة بأسرها.

 ولهذا السبب لن يتم التكامل الإقليمي في العالم العربي إلا تحت قوة دفع الاضطرابات السياسية الداخلية، مثل مرحلة جديدة من "الربيع العربي"، قادرة على تغيير أداء الدول.



(1) Cf. « Rapport sur le développement humain arabe 2016 », Programme des Nations unies pour le développement (PNUD).

(2) Lire Fatiha Dazi-Héni, « Drôle de guerre dans le Golfe », Le Monde diplomatique, juillet 2017.

(3) Lire Nazim Kurundeyr, « Derrière l’eldorado, l’enfer », Manière de voir, n° 147, « Les monarchies mirages », juin-juillet 2016.

فشل اليوتوبيا الإسلامية

نوفمبر 2018

الحركات التي كانت تنوي جعل الإسلام مصدر التشريع الوحيد لم تنجح في الاحتفاظ بالسلطة. فقد تمت محاربتها من طرف أنظمة تسعى بدورها الى توظيف التدين، وفقدت مصداقيتها بسبب تنازلها للعبة السياسية ونتيجة إخفاقها في إرساء سياسات اقتصادية في مستوى التحديات الاجتماعية.

إلى حدود انهيار الإمبراطورية العثمانية (1299-1924)، التي كانت تجسد آخر “خلافة إسلامية” كبيرة (1)، كان المسلمون يبنون هويتهم على ازدواجية بين الدين والسياسة، يعبر عنها مفهوم الأمة. هذا المصطلح يشير إلى جماعة المؤمنين ومن ثم شمل كل جوانب الدين الإسلامي وتجلياته البشرية، حتى أصبح فكرة عابرة للزمن تتضمن ماضي المسلمين وتتطلع إلى مستقبلهم، ولم تكن له حدود جغرافية، بل كان يستوعب كل أنحاء العالم المعروف آنذاك، ولم يكن هذا المفهوم يعبر عن حكومة مدنية ولا عن سلطة دينية ثيوقراطية، بل فقط عن مجموعة بشرية تتقاسم نفس العقيدة.

ثم تغيرت هذه الرؤية للعالم تغيرا جذريا، مع ظهور طموحات الهيمنة الغربية وسقوط الإمبراطورية العثمانية وما تبعها من إلغاء الخلافة من طرف “الجمعية العمومية التركية الكبرى” في عام 1924، من خلال الإمبريالية وتداعيات الحرب العالمية، إذ اخترقت المناهج الغربية في التفكير مجموع العالم الإسلامي، وبخاصة بلدان الشرق الأدنى، واقتبس العثمانيون، وهم في مرحلة الانهيار، النماذج العسكرية الأوروبية، في حين تم دمج البلدان المستعمَرة في الدورة الغربية للإنتاج الاقتصادي، كما أن المنظومة القانونية الأوروبية التي تتمحور حول قواعد مقيدة وتأسيس قانوني نظامي، أضيفت إلى مضامين “الشريعة الإسلامية”، التي كانت تفسح المجال للاجتهاد من أجل التكيف مع تغيرات الزمان والمكان لتصبح هي العمود الفقري الدستوري للدول الوطنية الناشئة. في هذه الحقبة الجديدة، تم استبدال مفهوم الأمة والمرونة الفقهية والسياسية، بنظام المؤسسات القانونية التي يسري مفعولها على مجال جغرافي محدد.

نقطة الالتقاء

في هذا المناخ الذي كان مطبوعا بفكرة الانحطاط، وبالضغوط الغربية المتزايدة، برز في أواخر القرن التاسع عشر، مفكرون مسلمون ينادون بضرورة التجديد الديني وبقراءة حديثة للنصوص القرآنية، ومنهم على الخصوص جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، اللذان دعيا إلى تفسير جديد للنصوص الدينية ينسجم مع  متطلبات الحياة الاقتصادية والسياسية الجديدة، هؤلاء المصلحون الدينيون، لم يسمّوا أنفسهم أبدا سلفيين، بل إن هذا المصطلح اعتمده الباحثون الغربيون، فيما كان هؤلاء المنادون بالإصلاح الديني، يعتبرون أن الواجب، هو العودة إلى المنابع والمصادر الأولى للإسلام التي تخلى عنها المسلمون بفعل تأثرهم بملامح الحياة العصرية ومستجداتها (2).

في محاولتهم لإنقاذ الإسلام، حسب منظورهم، انخرط هؤلاء المصلحون في حركة ثقافية وسياسية ودينية سميت “النهضة”، ولكنهم، وربما عن غير قصد، ساهموا في نوع من الانحراف التاريخي، لأن مفهوم الأمة والأفكار الرئيسية للإسلام، لم تعد هي المعيار الأول والمرجعية الكبرى للمسلمين، بل أصبح الحكم على إنجازات الحضارة الإسلامية، يعتمد فقط على قدرتها على مسايرة التطورات الغربية والتشبه بها.

في نفس الوقت، عرف الشرق الأدنى نشأة كيانات وطنية جديدة على أنقاض الإمبراطورية، وتأسست فيها أنظمة ملكية وجمهورية لم تكن نابعة من زعامات إسلامية محضة، بل ما كانت في الحقيقة إلا استنساخا لأنظمة الاستبداد العسكري التي عرفتها أوروبا في القرن التاسع عشر.

هذا التحول الجذري الذي عرفه الفكر الإسلامي، مقارنة مع المصادر الأولى، ترك أثارا بالغة، في بداية القرن العشرين، استقطبت فكرة الحركة السياسية الإسلامية كثيرا من الزعماء والمثقفين المعارضين لتنامي النفوذ والتأثير الغربي وكل الرافضين لمشاريع الإصلاح التي تنادي بضرورة التكيف مع الحداثة. هذا التسييس للإسلام، نتج عنه تحول الإيمان إلى أداة للكفاح ولمقاومة الاستعمار والإمبريالية، ونشأ من جراء ذلك جيل جديد من المناضلين الذين يعتبرون أن الإسلام ليس في حالة تأخر وتخلف عن العالم الغربي، بل أنه يشتمل على نموذج مضاد للتطور يمكنه تحرير المسلمين من تخلفهم الـمزعوم، ويكون هو الدرع الواقي من تأثير الثقافة الغربية، ومن ثم أصبحوا ينادون بضرورة قراءة ودراسة النصوص الدينية الـمقدسة، قراءة جديدة.

أنجبت هذه التطورات في الحركة الإسلامية إيديولوجية تمزج بين الدين والسياسية بقدر أكبر من الأدبيات الكلاسيكية التي كانت تتناول الشريعة الإسلامية ولو أن هذا المنظور الجديد الذي يخلط الدين بالسياسة كان يزعم أنه يستلهم المبادئ الكبرى من التراث الإسلامي القديم، وعلى خلاف تلك المرونة التي طبعت علاقة الدين بالسياسة في القرون الإسلامية الأولى، فإن حركات الإسلام السياسي الجديدة، وخصوصا جماعة “الإخوان المسلمين” التي تأسست في مصر وأرادت أن تفرض نموذجا جامدا للفرد المسلم، فلم يكن على المؤمن، حسب رؤية هذه الجماعة، أن يتساءل إلى أي صنف من المسلمين ينتمي، بل إنهم ضربوا بعرض الحائط تلك التقاليد الإسلامية الأصلية والمجهودات الفلسفية التي يزخر بها التراث الإسلامي، واكتفوا بالانتباه إلى التمييز بين المؤمن وغير المؤمن، وأعادوا إلى الوجود مفاهيم ومصطلحات مثل “الجهاد” (وخصوصا جهاد النفس)، و”التكفير” من أجل توظيفها مع مفاهيم أخرى من الفقه الإسلامي في المواجهة في عالم ثنائي يتميز بالتعارض بين الإسلام والغرب (3). والنتيجة، هي أن هؤلاء المناضلين الإسلاميين، لم يعودوا يعتبرون الدين كخيمة جامعة للأمة الإسلامية تخترق الزمان والمكان وتمنح تصورا للخلق وللعلاقة بين البشر وخالقهم، ولكن هدفهم أصبح بدون تردد، هو الاستيلاء على السلطة السياسية والوصول إلى الحكم.

خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ساعد تراجع القومية العربية، كإيديولوجية سياسية مهيمنة، على الانتشار الواسع النطاق لحركات الإسلام السياسي، وخاصة بعد هزيمة المعسكر العربي في حرب 1967 ضد إسرائيل التي كانت قاصمة لكل المثل العليا القومية والوحدوية، ثم جاءت الثورة الإيرانية عام 1979 لتجهز على ما تبقى من هذه النزعة القومية العربية، ولتظهر للعالم أن مجموعة من الشباب المتشبعين بالفكر الديني، يمكنهم إسقاط نظام الشاه الإيراني الذي كان مسنودا بأكبر القوى الغربية.

التجربة المصرية الكارثية

لقد فشلت الحركة الإسلامية اليوم في تحقيق الوعد الوهمي الذي قطعته على نفسها، فالحركات الإسلامية، ما عدا في بعض البلدان مثل تونس، إما وقع تحييدها أو أفلست إفلاسا كاملا، أما في الجزائر، فإن الحرب الأهلية الجزائرية خلال فترة التسعينات من القرن الماضي، لم تنتج إلا خيبات، وأعطت إشارة لما سيأتي فيما بعد من تحولات أعقبت الربيع العربي عام 2011. لقد حكمت جماعة “الإخوان المسلمين” بلاد مصر بطريقة كارثية قبل أن يطيح بها الانقلاب العسكري عام 2013 (4)، والذي نهج سياسة القمع الشديد ضد أعضاء جماعة “الإخوان المسلمين”، أما في العراق وسوريا واليمن، فإن القوى الإسلامية قد لعبت دورا هامشيا في مسار تعزيز الديمقراطية، وقد توارت إلى الخلف في مشهد تطبعه مكافحة التطرف العنيف، أما في المغرب والأردن والكويت، فقد عرفت الأحزاب الإسلامية، المعترف بها قانونيا، بعض النجاحات الانتخابية،  ولكن في ظل برلمانات محلية تتحكم فيها السلطة تحكما شاملا، لأنها بلدان تعيش تحت السلطة الملكية المطلقة، ولذلك، فهي قوى سياسية لا حول لها ولا قوة، ولا تأثير لها في صنع القرار.

إن فشل نموذج الإسلام السياسي يتجلى في ثلاثة طرق:

أولا: لقد أخفقت هذه الحركات في تطوير الحلول الاجتماعية والاقتصادية الكبيرة التي تتجاوز الشعارات، لأن الصراخ بأن “الإسلام هو الحل” و “القرآن دستورنا”، لا يقوم مقام السياسات العمومية التي تساعد على حل مشاكل الناس والتي أخفقت الأنظمة الاستبدادية في معالجتها: الفقر المتزايد والبطالة ونظام التعليم الفاشل والفساد المستفحل. على سبيل المثال، ففي المغرب وصل حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى قيادة الحكومة، لكنه اعتمد الاستراتيجيات الاقتصادية التي طورها التقنوقراط تحت أعين المؤسسات المالية الدولية، وهو ما يبرز أن النظرية الإسلاموية في الحكم لا تتوفر على نموذج للإنتاج الاقتصادي، ولا تتضمن رؤية عن دور الدولة في تنظيم الدورة الاقتصادية والإشراف عليها وتأهيلها.

ثانيا: إن أحزاب الإسلام السياسي، وباستثناء تونس، لم يستطيعوا أبدا ممارسة الحكم، فتبين أن انفتاحهم على التيارات الأخرى ما هو إلا خديعة، ففي مصر، ظهر جليا أن هاجسهم عندما تولوا رئاسة الدولة، كان مقتصرا على الهيمنة المطلقة بدل تشجيع التعددية السياسية في البلاد، ومن ثم فإن الفكرة القائلة إنهم لم يمروا عبر تجربة الحكم ليبرهنوا على انفتاحهم، قد سقطت. لقد برزت أيضا معاداتهم للتيارات العلمانية التي تنادي بالدولة المدنية، وهو ما أعطى للجيش ذريعة مناسبة لينقض على السلطة بانقلابه العسكري على الرئيس محمد مرسي.

ثالثا: لقد برهن الإسلاميون في العالم كله، أنهم لا يترددون في ممارسة المناورات السياسية، وفي التحالف مع القوى الاستبدادية، وهو ما أفسد صورتهم كتيارات تقاوم الفساد، ففي مصر وبعد سقوط نظام الرئيس حسني مبارك عام 2011، لم يتردد “الإخوان المسلمون” في التحالف مع العسكر، وفي رفض الحوار مع الأطراف السياسية الأخرى.وفي المغرب، لا يكترث حزب العدالة والتنمية إلا بالحفاظ على علاقة طيبة مع الملكية، لأن هذه العلاقة هي التي توفر له الموارد الجديدة والحضور في المشهد السياسي، لذلك، فهو لا يسعى لإصلاح المنظومة السياسية بكاملها. بعد نجاحه في انتخابات 2011، برهن الحزب على تشبثه بالولاء المطلق للنظام الملكي، ومن أجل ذلك قام بتوظيف مفاهيم قديمة من الفقه الإسلامي، مثل النصيحة لأولياء الأمر، وواجب الطاعة للإمام لكونها فضيلة من الفضائل، أما المبادئ التي كانوا يدافعون عنها من قبل، مثل حماية حقوق الإنسان، فقد اختفت من أدبياتهم. لا يستطيع هذا الحزب الدفاع عن التحول الديمقراطي والإصلاح الدستوري، وفي نفس الوقت، الاستمرار في قبول السيطرة الملكية المطلقة على كل مجالات القرار السياسي، لقد وضع الحزب نفسه اليوم في خدمة القصر الملكي، ولكنه سيقبل غدا، إذا اقتضى الحال، أن يتحالف مع العسكر أو مع فلول النظام المتبقين إذا ما سقط النظام يوما ما، لأن ما يهمه، هو الحفاظ على الرصيد الانتخابي، فقد انتقل من وضع حزب معارض إلى حزب حكومي، لكن المشهد السياسي، لم يتغير فيه أي شيء.

والإسلاميون على العموم، منخرطون في استمرار الانقسامات والنزاعات السياسية والطائفية التي تعصف بالعالم العربي، وهو ما يضرب في الصميم زعمهم الوقوف على مسافة من التجاذبات السياسية، وزعمهم التدثر برداء الطهرانية السياسية والتوفر على استقلال القرار.

التعصب الأعمى للدولة

 توضح حالة لبنان هذه المشكلة. لقد بدأ حزب الله هناك كجناح مسلح للثورة الإيرانية، واختار أن ينتهج سياسة جذرية لها بعد إيديولوجي في خدمة الطائفة الشيعية، وبعد فترة وجيزة من تأسيسه، تحول الحزب إلى حركة قومية تكافح من  أجل تحرير الأراضي اللبنانية من الاحتلال العسكري الإسرائيلي، وقد كان ينظر إليه بصفته حركة إسلامية من بين حركات الإسلام السياسي الأخرى، ولكنه ذو قاعدة شعبية واسعة، أما اليوم، فإنه لا يخفي حمايته ورعايته من طرف السلطة الإيرانية، ولازال يزعم أنه حزب يقاوم نيابة عن الشعب اللبناني، ولكن في الممارسة العملية، كرس نفسه للعمل المسلح في سوريا ضد الطائفة السنية، بل كل الطوائف السنية. في هذا البلد حزب الله تولى دور المقاتل في ساحة المعركة التي يحكي عنها سفر الرؤيا، لذا، فإن حزب الله، ليس حركة إسلامية منشغلة بالمستقبل السياسي والاقتصادي اللبناني، بل هو كيان عابر للحدود الوطنية ينتظر رجوع المهدي المنتظر على أرض أجنبية.

غالبا ما يصف الإسلاميون أنفسهم كضحايا القمع الاستبدادي والاضطهاد الغربي، ولكن في الوقت نفسه، يدعون المؤمنين إلى تدارك هذه الشرور عبر الاستيلاء على السلطة، فما هم في الحقيقة إلا نتاج الأنظمة الاستبدادية التي يدعون مكافحتها، وما خطابهم الإيديولوجي حول الحكم الديمقراطي أو التنمية الاقتصادية، إلا خدعة عندما نقارنه بخطابهم الذي يدعو المواطنين لاستعمال العنف أو لمعاقبة غير المؤمنين، والسعي نحو تأسيس الدولة الإسلامية المثالية.

إن تونس، هي النموذج الوحيد من بين البلدان العربية التي نجح فيها حكم الإسلاميين إلى حد ما، وهو نجاح نسبي إذا ما نظرنا إلى السياق العام الذي يعرف الركود الاقتصادي ومشاكل الهجرة وعودة الجهاديين، وغيرها من مشاكل هذا البلد، إن “حركة النهضة” ونظيراتها العلمانية، مثل حزب “نداء تونس”، تعاونوا على أرض الواقع لضمان السلم المدني والحفاظ على المكاسب الديمقراطية (6). و” حركة النهضة” قوة إسلامية لا بأس بها من حيث الحجم، ولها قاعدة شعبية عريضة وقيادة متماسكة، بينما “نداء تونس” وبعض الأحزاب الأخرى غير الدينية، تستجمع حولها تيارات اليسار والقومية وممثلي المجتمع المدني ورجال الأعمال، ناهيك عن فلول نظام الرئيس المخلوع، زين العابدين بن علي.

ولكن حالة تونس، ما هي إلا الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، و ”حركة النهضة” ما استطاعت أن تنجح، إلا بفضل سياق معين دفعها إلى التخلي عن بعض توجهاتها الإسلامية، فبعد ثورة شهر يناير 2011 ونشأة الديمقراطية التونسية، اندمجت “حركة النهضة” في المنظومة السياسية واستفادت من دعم دولي قوي دون تكبد الكثير من الخسائر التي كان من الممكن أن تنجم عن تدخل أجنبي، لقد كان حزب السيد راشد الغنوشي محظورا من قبل على مدى عدة عقود، وعرف كيف يتطور ويستوعب بعض الأفكار الجديدة التي لم تكن نابعة من صميم الشريعة الإسلامية، فجاءت مكاسبه الانتخابية في الانتخابات التشريعية لعام 2014 والبلدية لعام 2018، دون أن يسقط في فخ الغرور الإيديولوجي وحب الهيمنة المطلقة، بل أفلح في التخفيف من ثقل الجانب الديني، للانسجام مع المعايير الدستورية وتعلم التعاون مع القوى السياسية الأخرى غير الإسلامية، وهو ما يعني أنه حزب تعَلْمَن شيئا ما مع مرور الوقت بعد أن رأى أن كل محاولاته لفرض الخطاب الديني تواجه بالمقاومة الشعبية العريضة، يبدو وكأن المثال الكارثي للتجربة المصرية في حكم الإسلاميين، والتي أجهز عليها الانقلاب العسكري، قد أعطت درسا بليغا للتونسيين، عن ضرورة الحذر واللجوء إلى الحلول الوسطى والتسويات التوافقية.

في نهاية المطاف، اقتنع الإسلاميون في تونس أنه لا يوجد تأويل لتعاليم الإسلام يعلو على الشرعية الانتخابية عندما يتعلق الأمر باختيار السياسات العمومية الوطنية والخارجية، بل على العكس من ذلك، أدركوا أنه لا يمكن للممارسة السياسية السليمة أن تكون عائقا أمام الامتثال إلى تعاليم الإسلام بطريقة سلمية ولو في الفضاء العام، وهذا معناه أن حركات الإسلام السياسي، يمكنها أن تعيش هذا التسامح المزدوج الذي عرفته تجارب أديان أخرى غير الإسلام، والشرط هو التخلي عن التحجر والتكلس الفكري والتحلي بالمرونة التي تنادي بها العديد من الأصوات للمشاركة في الحياة العامة الوطني (7).

على الرغم من رفض هذا التوجه من طرف الكثير من الإسلاميين، فإن هذه الديناميات التوفيقية، كانت حاضرة في تجارب الحضارة الإسلامية الأولى، حيث ساد الاقتناع بأنه حتى لو كانت النصوص القرآنية مقدسة، فإن تأويلها وتطبيقها عمل بشري قابل للنقاش، والأخذ والرد، وقابل لتعدد الأفهام، وهو ما يؤدي إلى التفاعل المستمر بين المقدس والبشري، وهذا من المميزات الدينية والسياسية للإسلام، التي لا يجب أبدا أن تتحول إلى رغبة هذا الطرف في تدمير الطرف الآخر ومحوه من الوجود.

إذا كان الحل لا يكمن في الحركة الإسلامية.. فأين هو إذن؟

لقد قدم الربيع العربي مشروع جواب عن هذا السؤال، في شكل سياسة ديمقراطية وسيادة الشعب والمطالبة بالكرامة، وقد عاد جزء كبير من المنطقة العربية ليعيش تحت حكم الاستبداد، وأصبح من الواضح أن الإسلاميين، لا يمكن أن يلعبوا وحدهم دور المنقذ، لأن وهمهم القديم الذي كان يعد الناس بالخلاص مقابل العضوية اللامشروطة في الحركات الإسلامية، قد فشل فشلا ذريعا، ولكن الوهم الآخر الديمقراطي الذي بشر به الربيع العربي، فشل بدوره أيضا.

لقد حافظ المواطنون العرب على تمسكهم بالإيمان، على الرغم من أنهم أصبحوا ضد هيمنة رجال الدين، وضد كل من يدعي امتلاك سلطة دينية تخول له احتكار تفسير النصوص المقدسة، لأنهم (المواطنون) يشعرون بالاشمئزاز إزاء كل من يوظف الدين والقداسة لتكريس سلطته السياسية، وفرض الطاعة على البشر، من ملوك ورؤساء وجماعات الإسلام السياسي ومؤسسات العلماء الذين توظفهم الدولة، وهذا الرفض الشعبي، لا يعبر فقط عن استنزاف إرث الثورة الإيرانية، ولكن تجسيدا لنهاية الحركات الإسلامية برمتها.

لقد عدلت الأنظمة استراتيجياتها من أجل الحفاظ على السلطة، فهي اليوم تحاول ملء الفراغ الناجم عن الضغوط المتزامنة الثلاثة القادمة من الأسفل: أولا، رفض الخطاب الديني والبروباغندا الإسلامية، ثم الرغبة المستمرة في العيش تحت سقف الحرية الديمقراطية، وهي الرغبة التي أججها الربيع العربي، وأخيرا، التشبث بالتدين في الحياة اليومية، ولذلك، استثمرت الأنظمة هذا الفضاء المعياري عبر فرض تأويلها الخاص لمفاهيم الإيمان والتقوى، والأمثلة على ذلك تكاثرت خلال السنوات الأخيرة في بلدان المغرب العربي، والمشرق العربي على السواء، منها الحرص على الالتزام بالصيام خلال شهر رمضان، وكذلك ترسيخ مكانة المرأة في المجتمع وفي الفضاء العام وفقا للأنماط التقليدية.

وعبر سن هذه القواعد الاجتماعية، حسب تقديرها الخاص، فإن الأنظمة الأوتوقراطية المحافظة تستجيب للرغبة في المحافظة لدى قطاعات واسعة من المجتمع، وفي نفس الوقت، تستمر في قمع الرغبة التحررية لدى الشباب، ولكن إخضاع الفضاءات الدينية لسلطة الدولة، من شأنه أن يدفع السلطات السياسية إلى إعادة إنتاج أخطاء الإسلاميين.

إن لمثل هذه التدخلات في المجال الديني، أثار عميقة على المدى الطويل، ليس فقط في مجال الدين، بل على مستقبل الديمقراطية والاستقرار في المنطقة، وفي كثير من الحالات، طورت الدول سياساتها الخارجية بناء على الإسلام الرسمي الذي تدافع عنه. في الآونة الأخيرة، قام حزب العدالة والتنمية التركي، الذي يمسك السلطة منذ عام 2002، باستغلال الشبكات الروحية التابعة للزعيم فتح الله غولن من أجل تعزيز سلطته السياسية وتصدير تأويله الخاص للإسلام السياسي (8). ثم قرر أن هذه الشبكة الصوفية خارجة عن القانون، لكي تصبح إيديولوجية النظام التركي وكل سياساته، متمحورة حول شخص الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان.

إن الملكيات بدورها، لا تفلت من هذه الميولات: فالمغرب والمملكة العربية السعودية، مثالان متعاكسان لهذا التوجه: ففي الحالة الثانية، تتناول وسائل الإعلام على نطاق واسع، المبادرات الاقتصادية والسياسية التي يطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان (MBS)، ولكنها لا تنتبه بما فيه الكفاية لمبادراته في المجال الديني، الذي ظل مبنيا على نوع من التوازن والتحالف بين عائلة آل سعود وطائفة العلماء الوهابيين السلفيين المسخرين من طرف السلطة، حيث تحتكر العائلة السعودية النفوذ السياسي، ويتكلف العلماء والفقهاء بتأطير الجانب الديني حسب تأويلهم الخاص للشريعة الإسلامي (9).

إن الرؤية الإسلامية الجديدة للنظام السعودي، تكسر هذا التوازن، وهي التي يقودها الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، فالسلطة تريد إحكام هيمنتها على الخطاب الديني والقرارات الدينية، وهو ما يشبه تصرف السلطات المصرية مع جامعة الأزهر خلال القرن العشرين أيام حكم الدكتاتوريات العسكرية المتتابعة. لقد أراد اليوم الحكام السعوديون لأن يصبح الخطاب الفقهي نسخة من خطاب الدولة وسياستها، وهذا يكاد يكون النجاح الوحيد لسياسات الأمير بن سلمان بالمقارنة مع مبادراته الاقتصادية الأخرى، الرامية لتحديث الاقتصاد الوطني السعودي ومقارنة مع مغامراته السياسية، مثل حصار دولة قطر والحرب على اليمن (10). كما أن عملية اغتيال الصحافي جمال خاشقجي في بداية شهر أكتوبر، تعد دليلا صارخا على مدى انتهاك حقوق الإنسان من طرف الدولة السعودية، وهو الفعل الذي سوف يلطخ صورتها الخارجية على المستوى الدولي.

من جانبه، يحبذ المغرب اتباع نهج أكثر مرونة في مجال الاحتكار الديني من طرف الدولة، وفي مجال الدبلوماسية الدينية، يحاول أن يروج لخطاب ديني على امتداد محور الشمال – جنوب: ففي اتجاه أوروبا، يروج المغرب لخطاب الاعتدال الذي يقاوم التطرف ويحارب الإرهاب، كما أن المغرب يتكلف بتكوين خطباء الجمعة والأئمة الفرنسيين، ومن جانب آخر يسعى ليروج لصورة المملكة المغربية كمركز للثقل السياسي والاقتصادي على مستوى القارة الإفريقية، وفي نفس الوقت، يريد تحجيم النفوذ الجزائري في القارة السمراء. إن الدبلوماسية الدينية التي تنهجها الرباط، لها هدف ثالث، وهو إحكام السيطرة السياسية على الجالية المغربية القاطنة في أوروبا، ولذلك أنشأ عدة مؤسسات تتكلف بالجانب الديني لهذه الجالية بالتنسيق مع السفارات والقنصليات المغربية والأجهزة الأمنية التي تراقب حركات وسكنات هذه الجالية.

وبالموازاة مع المجهود الرامي لترويج صورة الإسلام المعتدل في الخارج، ينتهج المغرب في الداخل، سياسة دينية يطبعها التزمت والتشدد تحت مبرر الحفاظ على الأمن الروحي للمواطنين وعلى الأخلاق العامة، ومن ملامح هذه السياسة، احتكار النقاش الديني من طرف المجالس العلمية الرسمية، والتشدد مع ما يسمى الردة ومظاهر الإلحاد، ويبلغ هذا النفاق ذروته عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع حالات المثلية الجنسية أو حالات العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج الشرعي الرسمي.

وأبعد من هذه الأهداف الثلاثة المباشرة، تبقى في نهاية المطاف، الوظيفة الرئيسية لهذه الاستراتيجية، تعزيز أسس السلطوية التقليدية، لأن الإسلام المغربي يرسخ الموقف الدستوري لمؤسسة إمارة المؤمنين كأعلى سلطة دينية في البلاد، ولكن هذه السلطة التي يمسك بها الملك بوصفه هو أمير المؤمنين، يمارسها بالموازاة مع مسؤوليته السياسية، مما يسمح له بالحفاظ على الوضع الراهن والسيطرة على الفاعلين في الحقل الديني ومراقبة وتحجيم تحركات القوى  المطالبة بالديمقراطية التي تريد وضع السلطة السياسية القائمة في موقع المساءلة، ولكن هذه الترتيبات كلها، تصطدم بثلاثة عوائق كبيرة:

أولا وقبل كل شيء: هناك الاختبار الاقتصادي، لأنه في غياب توزيع عادل للثروات، لا يمكن للفاعلين الاجتماعيين أن يتعاملوا دائما بالطاعة العمياء مع السلطة السياسية.

ثانيا: هذه الترتيبات، لا تقوم إلا على أفكار دينية لا يربط بينها إلا الفاعل السياسي، ولذلك يمكن في أي وقت أن يبرز على الساحة فاعلون دينيون يحملون معارف إسلامية منسجمة فيما بينها وقوية أكثر مما تحمله السلطة، ويعرفون جيدا التاريخ الإسلامي.. ولا يتعلق الأمر بالضرورة بنزعة لائكية، ولكن بمسألة احتكار الحقل الديني في حد ذاته، وهنا يجب القول إن مفهوم الاعتدال بنفسه، يصبح ذا طبيعة استبدادية، وأخيرا، فإن إصرار الملك محمد السادس على الترويج لصورته الشخصية كملك عصري غير تقليداني، يضرب في الصميم هذه الاستراتيجية.

في غضون ذلك، يصبح الاعتدال هنا ذا طبيعة استبدادية، لأنه هو الذي يرسم حدود الخطاب الديني بنفسه، بينما الهدف لا يجب أن يكون هو الإسلام المعتدل، بل الإسلام المتنور الذي يحتاج أولا وقبل كل شيء، إلى تشجيع الفكر النقدي، وهو العدو اللدود للاستبداد السياسي.



(1) Toutes les notes sont de la rédaction. Cf. Nabil Mouline, Le Califat. Histoire politique de l’islam, Flammarion, coll. « Champs Histoire », Paris, 2016.

(2) Cf. Mohammed Arkoun, Essais sur la pensée islamique, Maisonneuve et Larose, Paris, 1973.

(3) Cf. Rudolph Peters, Jihad in Classical and Modern Islam: A Reader, Markus Wiener Publishers, coll. « Princeton Series on the Middle East », Princeton, 1996.

(4) Lire Alain Gresh, « En Egypte, la révolution à l’ombre des militaires », Le Monde diplomatique, août 2013.

(5) Lire Marie Kostrz, « Le Hezbollah maître du jeu libanais », Le Monde diplomatique, avril 2016.

(6) Lire Pierre Puchot, « Le consensus pour sortir de la crise », dans « Le défi tunisien », Manière de voir, n° 160, août-septembre 2018.

(7) Cf. Alfred Stepan, « Tunisia’s translation and the twin toleration », Journal of Democracy, vol. 23, n° 2, Baltimore, avril 2012.

(8) Cf. par exemple Gabrielle Angey, « La recomposition de la politique étrangère turque en Afrique subsaharienne. Entre diplomatie publique et acteurs privés », note de l’Institut français des relations internationales (IFRI), Paris, mars 2014.

(9) Cf. Natana J. Delong-Bas, Islam wahhabite, Erick Bonnier, coll. « Encre d’Orient », Paris, 2018.

(10) Lire Gilbert Achcar, « Au Proche-Orient, la stratégie saoudienne dans l’impasse », Le Monde diplomatique, mars 2018.

من الجزائر إلى السودان: الهزات الارتدادية للربيع العربي

مارس 2020

يدرك علماء الزلازل تمامًا هذه الظاهرة: غالبًا ما تتسبب الهزات الارتدادية في أضرار أكثر من الزلازل التي تسبقها. تسبب "الربيع العربي" 2011-2012 في تصدعات عميقة في الأنظمة الاستبدادية التي تحكم المنطقة، مما يدل على قوة الحركات الشعبية عندما تكسر جدار الخوف. في عام 2019، وقعت أكبر هزة ارتدادية، مع موجة من الاحتجاجات التي هزت العديد من الأنظمة في المنطقة ويبدو أن الاضطرابات الحالية في الجزائر ومصر والعراق والأردن ولبنان والسودان هي التجليات المنطقية لـ "الربيع العربي".

وهذا يثبت مرة أخرى أن المجتمعات المعنية، التي لا تزال تواجه ظلما اقتصاديا وسياسيا، ترفض الاستسلام. وبطبيعة الحال، لا يزال خصومهم - الأنظمة الاستبدادية - مصممين أيضاً على الاحتفاظ بالسلطة ويحاولون التكيف مع الاحتجاجات من أجل البقاء وربما هي غريزة البقاء.

لم تتغير المعطيات البنيوية منذ انتفاضات 2011-2012، وهذا ما يؤدي إلى هزات ارتدادية. وأول هذه المعطيات فئة الشباب. إن ثلث السكان تقل أعمارهم عن 15 سنة، وثلث آخر تتراوح أعمارهم بين 15 و29 سنة. على مدى العقد الماضي، شهد العالم العربي جَيْله الأصغر سناً، وهو الأكثر أهمية من الناحية السكانية والأكثر تعليماً، يبلغ سن الرشدً. وتتميز هذه الفئة العمرية أيضا بانغماسها العميق في وسائل التواصل الاجتماعي وإتقانها للتقنيات عبر الإنترنت.

والثابت الثاني من المعطيات ذو طبيعة اقتصادية. لا تزال تنمية المنطقة هزيلة. وخارج الممالك الخليجية الغنية، تفاقمت معدلات البطالة والفقر في معظم البلدان، ووفقاً للبنك الدولي، فإن 27% من الشباب العربي عاطلون عن العمل، أي أكثر من أي منطقة أخرى في العالم (1). وقد بلغت الرغبة في الهجرة، لأسباب اقتصادية أساسا، مستويات عالية تاريخيا. وفي أحدث تقرير عن مؤسسة عرب باروميتر Arab Barometer (2) فإن ثلث أو أكثر ممن تمت مقابلتهم في الجزائر والعراق والأردن والمغرب والسودان وتونس يريدون الهجرة. في المغرب، 70% من الذين يتراوح سنهم بين 18 و29 سنة يحلمون بالرحيل. وأمام هذا الواقع المأساوي لا تفعل الحكومات شيئا لوقف هذا النزيف والنتيجة هي أن هؤلاء الشباب ليس لهم أفق غير الاحتجاج على وضعهم المادي.

أنظمة الحكم التي تعاند وتعاند

هناك سبب ثالث رئيسي يأجج الاستياء العام وهو عدم إحراز تقدم في طريقة الحكم. وقد أدى غياب السياسات والممارسات الديمقراطية، باستثناء تونس، إلى زيادة تهميش السكان. ويرى العديد من المواطنين أن الفساد متأصل في البلاد وأن فرص العثور على عمل أو الاستفادة من الخدمات الفعالة لا يكون إلا من خلال تقديم الخدمات والانخراط في شبكات الزبونية، على حساب التميز والاستحقاق.

وإذا ما ظلت البنيات الحالية على حالها، فإن المشهد الاحتجاجي قد يشمل توجهات جديدة غير مألوفة. أولاً، أدركت الحركات الشعبية أن الإطاحة بالزعيم وحدها لا تضمن تغيير النظام، خاصة إذا كانت الأجهزة العسكرية والأمنية تحتفظ بصلاحياتها ونفوذها وإذا كانت قواعد اللعبة السياسية لا تتغير. وبالتالي، فإن المتظاهرين لا يطالبون بانتخابات تنظم على عجل. يريد الناشطون الجزائريون والسودانيون تجنب أخطاء الثورة المصرية في 2011 (3) ويطالبون بتفكيك جميع مكونات النظام الاستبدادي. كما أن المحتجين أضحوا اليوم أكثر وعياً بإيجابيات وسلبيات تكنولوجيا المعلومات.

في الماضي، كانت الشبكات الاجتماعية قادرة على التحايل على الرقابة والإفلات من قمع الدولة، أما اليوم، فإنها تسمح أيضاً بالتعبير عن الالتزام السياسي ومقاومة الدولة ولو مقاومة افتراضية ولكنها مستمرة من خلال الإبداعات الفنية أو السخرية أو النقد الشديد الذي يهدف إلى نزع الشرعية عن القادة والمؤسسات. يتطور هذا النوع من المعارضة بشكل خاص في الجزائر ولبنان، حيث لم تنس الحركات الاحتجاجية النزول إلى الشوارع، لكنها تؤثر أيضاً على البلدان التي ينظر إليها الغرب على أنها أكثر هدوءا، مثل المغرب والأردن. لقد تحولت وسائل التواصل الاجتماعي في العالم العربي من وسيلة للهروب من الواقع إلى ساحة معركة بين الدولة وجزء من المجتمع. ومن سوء حظ المحتجين أن الحكومة تستخدم بدورها الإنترنت وشبكاتها لنشر دعايتها واستهداف المعارضين الأكثر نشاطاً ثم قمعهم.

وأخيراً، ابتعد الناشطون أكثر عن الأيديولوجيات. لقد عرف “الربيع العربي" بالفعل خيبة أمل وإهمالا لكل تلك “الشعارات " الرنانة السابقة مثل العروبة، والإسلاموية، والاشتراكية، والقومية. وكما لم تعد الحركات الجماهيرية حساسة للوعود الطوباوية فقد أصبحت تفضل النضال اليومي لتحسين الحكامة في بلدانها. وقد عززت الهزة الارتدادية لزلزال 2011-2012 هذا التطور من خلال وضع حد للعقيدة الفلسفية حول الديمقراطية. إن ما تطلبه قوى المعارضة أولاً هو تفكيك كل هياكل الاقتصاد السياسي القديم التي تولد عدم المساواة والظلم كما تلعب المرأة دوراً أكثر مركزية في هذه الحركات الشعبية الجديدة، وهو ما يعني أن النقد الجذري للنظام الحاكم القديم يستهدف أيضاً المنظومة الاجتماعية الأبوية.

كما تعلمت الأنظمة الاستبدادية من أحداث العشر سنوات الماضية وقد أظهرت مصائر الرئيس السابق زين العابدين بن علي في تونس ونظيره علي عبد الله صالح في اليمن أن التظاهر باستعمال المناورات الديمقراطية أمر لا يخلو ومن خطورة. وعندما تهاجم الحركات الشعبية النظام الحاكم فإن الاستراتيجية الرابحة للقوى في السلطة لم تعد تتسامح مع المعارضة على أمل أن يوفر لها هذا التعهد بحسن النية مزيدا من الوقت. إن الاستجابة العقلانية من الحكومات حسب منطقها الآن هي الاستمرار في القمع.

إن محنة المنشقين السعوديين المنفيين ترمز إلى اللجوء إلى المناهج المتطرفة التي يتم توظيفها في مواجهة كل ما يشكل تهديدا. وقد تعزز استخدام هذا العنف بالاعتماد على فكرة أكثر سخرية: الأنظمة مطمئنة إلى الإفلات من العقاب. قد ينتقد "المجتمع الدولي" انتهاكات حقوق الإنسان: فالقوى الأجنبية لا تزعجها الطريقة التي تعامل بها الدول العربية معارضيها الديمقراطيين. وبما أنه حليف للدول الغربية، لم يحاسَب نظام المشير المصري والرئيس عبد الفتاح السيسي سواء على الإطاحة بحكومة منتخبة أو قتل عدة مئات من الأشخاص خلال المظاهرات في ميدان رابعة العدوية في القاهرة في صيف 2013 (4) ولا بشأن الوفاة المشبوهة للرئيس السابق محمد مرسي أثناء محاكمته في يونيو 2019.

كما أن اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي (4) داخل قنصلية بلاده في إسطنبول (2 أكتوبر 2018) لم يزعزع العلاقات بين الرياض وبقية دول العالم. في سوريا، وعلى الرغم من مذبحة الحرب الأهلية، لا يزال بشار الأسد يحكم. في يناير 2011، تسبب عرض وزيرة الخارجية الفرنسية ميشيل أليو ماري بمساعدة نظام بن علي التونسي في فضيحة أخلاقية. ومن ناحية أخرى، عندما تدعم فرنسا وساطة الأمم المتحدة في ليبيا مع تسليحها في نفس الوقت لقوات المشير خليفة حفتر، فإن الأمر يكاد يمر مر الكرام ولا يلاحظه أحد تقريباً.

أما السودان فهو حالة خاصة للتعامل مع "الربيع العربي"، وهناك احتمال بأن تمهد المفاوضات السلمية الطريق للديمقراطية، في حين أن الأمر ليس كذلك في الدول الساخنة الأخرى. وتسمح أهمية التعبئة لقادة المعارضة بحشد الرأي العام في الوقت الذي لا يكون فيه للماسكين بالسلطة حماية دولية. لكن السودان يتميز عن غيره من البلدان العربية بحيوية مجتمعه المدني، ووجود جمعيات مهنية نشطة جدا، واستعداد الناشطين لاستدراج القادة العسكريين إلى طاولة المفاوضات. وعلى مدى عقود، لم تتردد النقابات العمالية والمنظمات غير الحكومية، وما إلى ذلك، في دخول المجال السياسي.

وعلى العكس، في العراق ولبنان والجزائر، تتميز النسخة الحالية من "الربيع العربي" بـالرغبة العميقة في تطبيق “ارحل " من أجل وضع حد لهيمنة النخب السياسية السابقة

لكن هذا المطلب الجذري لا يصاحبه أي جهاز سياسي يسمح بالتعامل مع النظام: فالمتظاهرون يبقون بعيدين عن الساحة السياسية، خوفاً من أن يؤدي أدنى اتصال مع الطبقة الحاكمة إلى فقدانهم المصداقية. وتتميز التعبئة أيضا بتنظيم أفقي يحول دون ظهور القادة والمتحدثين الرسميين. وإذا كان ذلك في البداية مكسباً، ولو لمجرد أنه حد من فعالية القمع، فإن غياب قادة الاحتجاج هذا يزيد من صعوبة الخروج من الأزمة. إن شعار “ارحل " يؤدي في بعض الأحيان إلى طريق مسدود.

لاسيما وأن المحتجين في العديد من البلدان ليس لديهم نفوذ اقتصادي للضغط الكافي على الحكومة. ويعتمد النظامان الجزائري والعراقي على صادرات النفط التي تعمل في صناعات غير ساحلية بعيدة اجتماعيا وجغرافيا عن المجتمع. لا يمكن للحراك (الحركات الشعبية) في هذه البلدان أن تعمل على تغيير القلب الاقتصادي النابض للنظام الحاكم، فالحركات الشعبية والأنظمة الاستبدادية توجد في طريق مسدود، لكن المستقبل سينتصر للأولى.

وإلى جانب الدروس المستفادة من "الربيع العربي" من طرف الأنظمة والمعارضات، تغير المشهد الطائفي والوضع الجيوسياسي بشكل كبير. لم تعد الصدامات الحالية بين السلطات ومجتمعاتها جزءاً من التنافس بين الأنظمة السنية المعادية للثورة، التي تجسدها بشكل خاص بعض الممالك الخليجية، والمعسكر الإيراني.

من أجل وقف الزخم المتنازع عليه في الفترة 2011-2012، تعمدت الكتلة المناهضة للثورة بقيادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على خيار تأجيج الصراعات الطائفية على أمل تفتيت المجتمعات والخلط بين أي معارضة ديمقراطية والمعسكر الإيراني وقد ساهمت طهران وحلفاءها - حزب الله اللبناني ونظام الأسد وميليشيات الحوثي (في اليمن) والعراق - بشكل كبير في هذا الانقسام: كانت الشوفينية السنية التي روجت لها الرياض وأبو ظبي هي رد فعل في الوقت المناسب للتأثير وتبرير الدعم للأطراف المنحازة إلى المعسكر الشيعي. ...

حدود التأثير السعودي

ها هي هذه الاستراتيجيات الإقليمية الآن قد فشلت. داخل المحور الإيراني، فقدت الرواية الطائفية جاذبيتها لدى النشطاء الشباب. في لبنان والعراق، لا ينجو من “ارحل" أي تيار طائفي. وفي العراق، لم يتردد المتظاهرون الشيعة في مهاجمة البعثات الدبلوماسية الإيرانية (6). لقد تغيّر الوضع بالنسبة لطهران، التي أصبحت الآن أمام منافسة مزدوجة، سواء على الصعيد المحلي - مع مظاهرات منتظمة ضد النظام الثيوقراطي - أو في منطقة نفوذها.

وفشلت الحملة المناهضة للثورة التي أطلقتها كتلة الرياض- أبو ظبي. وقد فشلت المساعدات المقدمة إلى بعض القادة العرب في ضمان استقرار نظامهم. في مصر، وعلى الرغم من مساعدة بلدان الخليج المالية، لم يتمكن الرئيس السيسي من فرض نموذج جديد للنظام يجمع بقوة بين الاستبداد والتنمية الاقتصادية السريعة والاستقرار السياسي. بل على العكس من ذلك، تمثل مصر، حيث أصبح الجيش لاعباً رئيسياً يحكم جميع قطاعات الاقتصاد، نموذجاً مضادا لا تريد أي دولة عربية أن تحاكيه.

إن إخفاقات الائتلاف السني تسلط الضوء على حدود النفوذ السعودي. وآخر مثال على ذلك هو عداء العديد من العواصم العربية لـ "صفقة القرن" التي اختلقها دونالد ترامب لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني (انظر المقال الصفحة 6). وعلى الرغم من جهوده، فشل الأمير محمد بن سلمان في تمرير الإشادة بهذه الخطة التي لا تحقق إلا أحلام اليمين الإسرائيلي. ومن الأمثلة الأخرى على الفشل السعودي الحرب في اليمن، التي أصبحت مستنقعاً له عواقب إنسانية مأساوية، ولم تشهد أي انتصار استراتيجي للرياض. بل على العكس من ذلك، كشفت عن نقاط الضعف العسكرية الذاتية للمملكة وإخفاقها في قدرتها على إبراز قواتها خارج حدودها.

وأخيراً، على المستوى المحلي، فإن الهدف الوطني المتمثل في تنويع الاقتصاد عن طريق الحد من الاعتماد على الهيدروكربونات لا يزال بعيد المنال. لم يؤدِّ إدراج شركة النفط العامة أرامكو في بورصة الرياض في أواخر العام الماضي إلى الحماس المتوقع بين المستثمرين الدوليين. بل يبدو أن العملية كانت امتدادا، إلى حد ما ولكن بلطف، لما يسمى بقضية "ريتز كارلتون"، عندما تم احتجاز العديد من الشخصيات السعودية في نوفمبر 2017 في هذا الفندق الكبير في الرياض، ثم تم إطلاق سراحهم مقابل أدائهم مبالغ مالية للخزينة السعودية (7). وفي ديسمبر الماضي، وبعد الكثير من المماطلة بشأن السعر التمهيدي لسهم أرامكو، أرغِم العديد من المستثمرين السعوديين على شراء حصص من أسهم المجموعة، على حساب أسهمهم الخاصة، التي باعوها لتمويل هذا الاقتناء. إن افتتاح رأسمال أرامكو، الذي تم الإعلان عنه بكثير من الدعاية، لا يعكس خصخصة الاقتصاد أو تنويعه، بل يوضح تشديد سيطرة ولي العهد على الاقتصاد السعودي.

كما يجب على المعسكر السني المناهض للثورة أن يأخذ في الحسبان التغيرات الأساسية في الاستراتيجية الجيوسياسية للولايات المتحدة. وباعتبارها قوة عظمى، لم تعد واشنطن تعتبر العالم العربي ذا أهمية كبيرة. ومع وجود مصادر جديدة للإمداد، يمكن للاقتصاد الأمريكي والأسواق العالمية الرئيسية أن تصمد أمام أي اضطراب في إنتاج النفط في الشرق الأدنى. وإضافة إلى ذلك، فإن خصوماً مثل تنظيم الدولة الإسلامية أو إيران لا يشكلون تهديدات وجودية، كما فعلت القاعدة ذات يوم. والرأي العام، الذي ضجر من الصراعات المتكررة في الشرق الأوسط، يرفض عودة الولايات المتحدة إلى التدخل في المنطقة، إلا في حالة الهجوم الإيراني على إسرائيل.

تراجع الهيمنة الأمريكية

من الواضح أن إدارة السيد ترامب تخلت عن دورها كحامية لدول الخليج ضد إيران. وكان اغتيال الجنرال الايراني قاسم سليماني في يناير الماضي مدفوعا أكثر بالرغبة في اظهار حزم واشنطن في مواجهة الاضطرابات العراقية التي هددت السفارة الاميركية في بغداد. وحتى ذلك الحين، رفضت الولايات المتحدة الانخراط في عملية عسكرية مناهضة لإيران، حتى بعد استيلاء الباسدران (حراس الثورة) على ناقلات النفط في الخليج، أو تدمير طائرة أمريكية بدون طيار، أو الهجوم على مصافي النفط السعودية. وبالمثل، فإن تخلي واشنطن عن حلفائها الأكراد في شمال شرق سوريا وصمتها في مواجهة التدخل العسكري التركي في المنطقة يُظهر إعادة ترتيباتها الاستراتيجية.

لقد دخلت الولايات المتحدة مرحلة جاكسونية (8) من سياستها الخارجية، حيث كان الغرض من تدخلاتها الخارجية هو ضمان أمنها الداخلي فقط، وبدون التزامات طويلة الأجل. وهذا التراجع في الهيمنة الأمريكية يجبر المملكة العربية السعودية وإيران على الإقرار بوضع جديد. تعرف الرياض الآن أن الدعم الأمريكي لم يعد غير مشروط. لا يمكن لطهران تجاهل حدود نفوذها الإقليمي وحدود قدرتها على الإزعاج، لأن الهجوم على المصافي السعودية لم يكن له تأثير يذكر على أسعار الذهب الأسود. ومن المؤكد أن اندلاع التوترات في المنطقة لا يزال ممكناً حول مسألة أمن إسرائيل. ومن الممكن أيضا أن تستمر الاشتباكات المحدودة في تأليب الولايات المتحدة ضد إيران. وهذا من شأنه أن يساعد على زعزعة استقرار المنطقة، ولكن من دون الوصول، ما لم يحدث أمر طارئ، إلى حجم صراع كبير مع معارك مفتوحة بين القوات الأمريكية والإيرانية.

ويجري الآن تنظيم النظام الإقليمي الذي حدد ملامح الشرق الأدنى في عام 2010 وفقا لمنطق جديد. تتراجع المملكة العربية السعودية تدريجياً عن الحظر الذي فرضته على قطر منذ ربيع عام 2017 - وهو أكبر خطأ ارتكبته في السياسة الخارجية منذ جيْل. ومن جانبها، تنسحب الإمارات العربية المتحدة عسكرياً من اليمن. كما أن الرياض وأبو ظبي أصبحتا أكثر استعداداً للتفاوض المباشر مع إيران على أمل تخفيف التوترات الإقليمية. لكن هذا لا يعني أن السعودية والإمارات ستتخليان عن تقاربهما مع إسرائيل، لأسباب تتعلق أساساً بأمنهما. إن تكنولوجيات الدفاع والمراقبة الإسرائيلية، بما في ذلك تكنولوجيا الحاسوب، لها وزن كبير في هذا الزواج المبني على المصلحة، كما أن قدرة تل أبيب على توجيه ضربات عسكرية إلى المصالح الإيرانية ومصالح حلفائها تدخل أيضا في الاعتبار.

ويتجلى تراجع الهيمنة الأمريكية أيضاً في "صفقة القرن" التي اقترحها السيد ترامب في يناير الماضي. لطالما دعمت الولايات المتحدة الحكومة الإسرائيلية. لكن اقتراحها هذه المرة يبرز أنها تخلت تماماً عن لعب كوميديا الوساطة بين الطرفين من أجل السماح لليمين الإسرائيلي بتصفية الملف.

وقد أصبحت المملكة العربية السعودية وشركاؤها الإقليميون من جهة، وإيران من جهة أخرى على وعي بمحدودية استراتيجية الحبل المشدود في الخليج والطبيعة غير المنطقية للصراع الكامن بينهم في المنطقة. وتتنازع هذه الأطراف الفاعلة الآن في أماكن أخرى، ويتم التعبير عن تنافسها الجيوسياسي في شرق البحر الأبيض المتوسط. وهنا يتشكل تحالفان جديدان. فمن ناحية، هناك مصر وإسرائيل وقبرص واليونان، التي يفسر وجودها البحري وتعاونها العسكري المتزايد بمصالحها المشتركة في استغلال احتياطيات الغاز الطبيعي البحرية. وفي مواجهة هذه الكتلة، هناك قطر وتركيا والحكومة الليبية التي تتخذ من طرابلس مقراً لها. وفي هذا التشكيل، أصبحت ليبيا الآن منتزعة من المغرب الكبير لتنضم إلى ساحة بلدان المشرق، حيث يتم التعبير عن الصراع بين هاتين الكتلتين بالوكالة. وقد أصبح هذا البلد، الذي يعاني من حرب أهلية تشارك فيها عدة أطراف، مسرحا للفوضى حيث يتصرف المرتزقة الأجانب والطائرات بدون طيار على الخطوط الأمامية بينما تدعم القوى الخارجية علناً هذا الجانب أو ذاك. من نواح كثيرة، قد تكون ليبيا الضحية الرئيسية لإعادة التحديد المستمر للمنافسات الجيوسياسية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط.

وفي إعادة التشكيل هذه، تمثل روسيا حالة خاصة. إنها حاضرة في سوريا بجانب النظام وفي ليبيا تشتغل بدوافع مضادة للثورة، ولكن هذه ليست استراتيجية عالمية. وبالنسبة لموسكو، فإن بعض الأنظمة الاستبدادية هي قبل كل شيء مجموعة من الحلفاء الذين يخدمون مصالحها في ظروف محددة. كما يشمل نطاق التدخل الروسي عمليات عسكرية منخفضة التكلفة ولكنها فعالة للغاية، والتي تتطلب قواعد صغيرة وغالباً ما ينخرط فيها شركاء من القطاع الخاص. لقد نجحت شركة فاغنر العسكرية حيث فشلت بلاك ووتر الأمريكية، وامتدت عملياتها من سوريا إلى جمهورية أفريقيا الوسطى. وليس لدى موسكو رؤية طويلة الأمد للنظام الإقليمي وتغتنم فرص الصراعات القائمة، التي تتيح لها الفرصة لجني فوائد جيوسياسية بتكلفة أقل. وبالتالي فإن الرؤية الروسية تكتيكية وليست استراتيجية.

وهم النموذج الملكي

باستثناء السودان، وصلت جميع الحركات الاحتجاجية إلى طريق مسدود. وهذا يبرز السؤال المعتاد: هل ستكون الأنظمة الملكية الحل المثالي للاستقرار السياسي؟ وقد أثيرت هذه المسألة بالفعل في أوائل سنوات 2010 بعد سقوط الرئيس التونسي بن علي وسقوط نظيره المصري حسني مبارك. والفكرة هي أن الأنظمة الملكية تتوفر على شرعية أكبر بسبب جذورها الثقافية والاجتماعية العميقة في المجتمع. كما أنها أكثر قدرة على التحكيم في النزاعات وضمان قيادة البلاد أثناء الأزمات، وذلك بسبب مرونتها كمؤسسات سياسية قادرة على الترفع عن الصراعات الحزبية.

على عكس المملكات والإمارات الخليجية، حيث العمل السياسي محدود، باستثناء الكويت، التي يوجد فيها مجلس الشعب منتخب، فإن المغرب والأردن، وهما بلدان تجري فيهما الانتخابات البرلمانية، لطالما روجا لإقامة أنظمة ملكية في العالم العربي لأنها تجمع بين سلطة ملكية نشطة وأحزاب سياسية مختلفة، ادعى بعضها أنه من المعارضة ولكنه لم يذهب إلى حد التشكيك في شرعية النظام الملكي. ولكن في السنوات الأخيرة، ظل أسلوب الحكم دون تغيير. ولم يستطع النظام المغربي الملكي ولا ابن عمه الهاشمي إظهار قدرته على التعامل بمرونة التي سمحت لهما في الماضي بتجاوز الأزمات، لا سيما من خلال التعاون مع بعض قوى المعارضة. وفي الأردن، أثّر وجود ما يقرب من مليون لاجئ سوري في المملكة والمخاوف من المأزق الفلسطيني على هامش المناورة المتاح للمعارضة ولكن لا يعرف المغرب أي تهديد خارجي من هذا القبيل. وفي المقابل، تعلم المتظاهرون بتضحياتهم أن تحدي النظام الملكي هو خط لا ينبغي تجاوزه.

وما دامت تمتنع عن ذلك، فإن الأنظمة الملكية تستطيع التكيف مع عاداتها المحافظة القديمة وإدامتها. ولاستخدام الاستعارة الاقتصادية، فإن المنتج الذي يستفيد من احتكار في السوق لا يمكن أبداً أن يتغير؛ ولكن إذا ظهر منتوج منافس، فهو يتطور ليبقى على قيد الحياة. وعلى هذا المنوال، في المغرب، يتجاوز المحتجون الآن الحدود التي وضعوها لأنفسهم بانتقاد النظام الملكي والكَفّ عن تقديسه. ويجري بالفعل التعبير عن شعور معارض للملكية. وبمجرد أن يصبح الوضع الراهن غير قابل للاستمرار، فإن السؤال المطروح على الملكية سوف يكون كيف يمكن استخدام ما تبقى من شرعيتها ومواردها السياسية لقطع الطريق على التيارات الجمهورية.



(1) Banque mondiale, https://data.worldbank.org

(2) « Arabs are losing faith in religious parties and leaders », Arab Barometer, 5 décembre 2019.

(3) Lire Alain Gresh, « En Egypte, la révolution à l’ombre des militaires », Le Monde diplomatique, août 2013.

(4) « Égypte : les forces de sécurité ont recouru à une force meurtrière excessive », Human Rights Watch, New York, 19 août 2013.

(5) Lire Akram Belkaïd, « L’affaire Kashoggi met Riyad sous pression », Horizons arabes, Les blogs du Diplo, 15 octobre 2018.

(6) Lire Feurat Alani, « Les Irakiens contre la mainmise de l’Iran », Le Monde diplomatique, janvier 2020.

(7) Lire Ibrahim Warde, « Singulière amitié entre Riyad et Washington », Le Monde diplomatique, décembre 2017.

(8) Lire Olivier Zajec, « Les cabotages diplomatiques de Donald Trump », Le Monde diplomatique, janvier 2018.

Contents